مقدمة
في منطقة بروفانس المشرقة بأشعة الشمس، وتحت سماء مطلية بألوان الباستيل الرقيقة، توهج موقد متواضع عند طرف قرية نابضة بالحياة. في كوخ حجري بسيط تحيط به وردات متسلّقة وخزامى معطّرة، عاشت شابة تُدعى سندريلا — كانت محبوبة من والدتها الراحلة ولكنها مُقيدة بالأعمال على يد زوجة أبيها القاسية وأخواتها الحاسدات. كل صباح، عندما يتسلّل ضوء الساعة الذهبية عبر زجاج النوافذ المزخرف، كانت تعتني بالموقد بلطف لا يتزعزع، تجمع البيض من الحظيرة، تمسح غرفة الجلوس، وتنسج أحلام يقظتها من جمرة الأمل الناعمة. مع أن السخام كان يلتصق بأطراف أصابعها وثقل المصاعب يضغط على كتفيها، ازدهر قلبها الحنون بالمثابرة. ترددت حكايات أن روح أمها لا تزال تحوم في وهج الموقد، تمنحها الشجاعة تحت سكون ضباب الصباح. وذهبت شائعات في أنحاء القرية عن حفل ملكي في قصر بيلمون، حيث سترقص الدوقات والسادة تحت ضوء الشموع بحثًا عن المصالح والتحالفات. لكن سندريلا لم تجرؤ على أن تحلم بالحرير أو النعال البلورية؛ عالمها كان عالم سخام ووعود مكسورة. رغم ذلك، نسج القدر خيطًا ذهبيًا في حياتها، واعدًا بأن الرحمة والصبر قد تحوّلان الرماد إلى غبار نجوم يومًا ما. وفي تلك اللحظة التحولية، بينما امتزج تغريد الطيور مع رنين أجراس الكنيسة البعيدة، بزرت بذور مغامرة قد تحدث مرة في العمر في روحها الثابتة.
من الرماد إلى الأحلام
مع أول خيوط النهار، حين طلّت شمس بروفانس الأفق بدرجات الورد والذهب الدافئة، نهضت سندريلا من فراش قش ضيق مهترئ، كأنّ أنسجته قد أرهقها السخام والرماد. قامت بصمت حتى لا توقظ نوم زوجة أبيها، تخطو بخفة عبر أرضية حجرية صقلتها خطوات الخدم لأجيال. كان الموقد باردًا ورماديًا ينتظر لمستها الرقيقة بينما كانت تكنس جمرات الأمس لتكشف عن فحم أحمر من تحته. في الخارج، كانت السنونو تغرّد بين قرميدات الطين، تذكرها أن الحياة في القرية تزدهر وراء جدرانها الضيقة. قبل أن تبدأ الأعمال، توقفت لترصّ كفها على بورتريه باهت لوالدتها الراحلة، وتقدّم صلاة صامتة طلبًا للقوة. حملكل نفس عبير الخزامى القادم من الفناء، تذكرة مرّة بحياة الكوخ المشرقة التي كانت. ارتدت ثوب عمل بسيط من كتان غير مصبوغ مرقّع بعناية من قصاصات مُستعارة. كان رغيف خبز مختومًا بختم الخباز المحلي موضوعًا على طاولة خشنة، ينتظر مصيره الصباحي. شكّلت أصابعها الماهرة والعاملة العجينة إلى دوائر مرتبة، متخيلة أن كل رغيف يحمل همسة أمل. في السكون قبل الفجر، وجدت عزاءها في المهام الصغيرة، وروحها ترتفع بوعدٍ غير معلن أن اللطف قد يصنع مصيره. ومع أنّ شباشبها الممزقة شهدت على الكدّ المتواصل، ظلّ قلبها خاليًا من الحقد.
زوجة أبيها، مدام دو سوفيرتر الصارمة، كانت تحكم المنزل بعزيمة حديدية، وكل لمحة منها تحمل برودة شتاء قاسٍ. أخواتها غير الشقيقات، إلويز ومارغريت، كنّ مرآة لغطرسة والدتهن، يتزينّ بحرير مستعار بينما كانت سندريلا تكنس سخطهن بهدوء متواضع. عند الظهيرة، تمددت الأختان في فناء منقّط بأشعة الشمس، متكئتين على وسائد مخملية، وضحكهن حاد كأجراس فضية. قدمت لهما سندريلا خمرًا باردًا متبّلًا بالقرنفل، أخفت مرارته بالعسل — بادرة كريمة لم تُبَدَّل إلا بازدراء واستهزاء. كانت متعتهن المفضلة الاستيلاء على أعمالها، ورمي الثياب البالية في برك الطين ثم المطالبة بمفارش جديدة تعويضًا. بدل الانتقام، أهدت سندريلا حذاء أخيها القديم لتدفئ به أقدامهن المتعبة، وابتسامتها الرقيقة كانت نورًا من لطف بالكاد يقدِرن على إدراكه. حتى حيوانات المزرعة شعرت بعطفها: قطّ هزيل يلتفّ حول أطراف ثيابها كل مساء، وطواويس تنتفّ ريشها بإعجاب صامت. عندما سقطت حمامة مجروحة من عوارض الرواق، عالجت جناحها المكسور تحت العوارض والدفء، وهي تهمس تهويدات بلكنة أمها الناعمة. ومع ذلك، بقي سكان المنزل غافلين عن الكنز المستتر في قلبها المتواضع. بينما انغمس الآخرون في ثمار النميمة، كانت سندريلا تحتسي دواء الأمل. كانت تؤمن أن النعمة تزدهر في أغرب الحدائق.
انتشرت أنباء عن حفل ملكي في قصر بيلمون عبر الريف، حتى بدا الهواء نفسه يرتجف من الترقب. رُسِل على ظهور خيول أنيقة حملت دعوات مطلية بالذهب إلى كل قصر ضمن خمسين فرسخًا، وحوافها المذهبة تعكس الحماس الذي يلمع في كل عين. عرضت السيدة دو أوبيرجين دعوتها بفخر على طاولة من خشب الورد، واعدةً بسهرة من الموسيقى والعظمة التي ستوحد البيوت النبيلة وتؤمّن التحالفات. في ساحة السوق، انتقلت الهمسات بين الأكشاك المليئة بالشُرائط والحرير، وتوقف الحرفيون ليتأملوا اللوحات المطرزة التي تحمل الختم الملكي. استمعت سندريلا من نافذتها، وقلبها يرفرف كجناح عصفور، بينما تتدرب أخواتها وترسمن درجات المخمل التي ستلبسنها. لم تجرؤ أن تأمل ثوبًا أو رحلة بعربة، ومع ذلك نسج احتمال موسيقى تحت النجوم خيوطًا ذهبية في خيالها. همست تحت أنفاسها بأبيات تهويدة قديمة كانت أمها تغنيها: «حيث تجتمع الأرواح الطيبة، يزهر السحر.» صار هذا العبْر تميمة سرية تحمي روحها من اليأس. وكلما لمحت انعكاسها في مرآة مشقوقة، تذكرت أن الجمال يتألّق حين تصقله المثابرة. رغم عدم امتلاكها لدعوة، رفضت أن تترك أحلامها لترمّاد الموقد، ولم تخطر في بالها أن روحها الرقيقة قد أسرت انتباه قوى أعظم.
في عشية الحفل الكبير، كان المنزل يغلي تحضيرًا: جذوع اللبلاب تتسلّق الأقواس، وفوانيس تتلألأ كيراعات متحمسة على أسوار القصر. من ركنها الهادئ بجانب الموقد، شاهدت سندريلا أخواتها يقاسمن الجواهر تحت ضوء شمعة خافت، كل وجهة حجر تعكس آمال ليلة لم تستطع إلا تصورها. عندما حضر ساعيٍ، وهو يحمل بوقه، رفضته مدام دو سوفيرتر بنظرة باردة. وضع المرسل ورقة مطوية عند قدميها، وختم الملك يتلألأ بشمع قرمزي عميق. عمّ الصمت حين كسرته وكشفت عن تفاصيل الحفل. ضاق صدر سندريلا عندما أدركت أن الدعوة موجّهة باسم زوجة أبيها وبناتها فقط. بلا تردد، أمرتها زوجة أبيها: «تأكدي أن كل شيء سيكون كاملاً — ثيابي مكوية، قفّازي مطرّزة، والعربة جاهزة عند الغروب.» بدت الكلمات كجذع ثلج يغرس قلبها، تركتها بلا نفس ومهزوزة. بينما احتضنت الأخوات انتصارهن، توقفت في المدخل وملأت عيناها حزنًا صامتًا، ومع ذلك استجمعت الشجاعة لتبتسم. في تلك اللحظة، تعهّدت أن اللطف والمثابرة سيكونان دليليها رغم وطأة المحن.
بعد أن رحلن الأخوات عند الفجر وتمدّدت ضحكاتهن في الطريق، عادت سندريلا إلى أعمالها بعزم لا يلين. فركت مصابيح الزيت حتى لمعَت، وكنّست أرضية الموزاييك في القاعة الكبرى، وصقلت الشمعدانات الفضية حتى صوبت بريقًا يضاهي ضوء القمر. غردت طيور الفناء ذات الريش الزمردي والصفوري بإعجاب وهي تنثر الحبوب تحت أقدامها المكسوة بالريش. حتى تماثيل الغرغويل الحجرية أعلى القاعة بدت وكأنها تلين من تجهمها أمام لمستها الحانية. بدلًا من المرارة، امتلأ قلبها بامتنان هادئ تجاه كل مهمة — كل فعل بسيط كان نشيدًا للصبر. في الحظيرة، اعتنت بالخيول التي كان بخار أنفاسها يتصاعد في هواء الصباح، فهي تهمس طمأنينة رقيقة وتمشط معاطفها. كانت العربة الريفية تقف قريبة، عجلاتها مشحمة وسروجها مدهونة، تنتظر دورًا في مراسم حُرمت منها. عند الظهيرة، حمل نسيم ورقة بتلة ليلك عبر نافذة مفتوحة، فتحول عملها إلى باليه من النور والعطر. جمعت البتلة بكفها وضغطتها إلى صدرها، متخيلة أنها هدية أمل من احتضان أمها. وحدها في القاعات الفارغة، أغمضت عينيها وتنفّست بعمق، تشدّ على روحها لتبقى مشرقة أمام الظلال المتجمعة. غير أنها لم تكن تعلم أن نفس البتلة تستدعي قوى بعيدة عن ذاكرة البشر، توقظ سحرًا في جنبات بعيدة.
عندما حلت الغسق على السماء الباستيلية، أضاءت فوانيس على شكل نُجوم، فتلألأت بمصابيح دافئة عبر نوافذ الكوخ. صعدت سندريلا درجًا ضيقًا لتحضير الماء، كل خطوة تردد كدقّة قلب في سكون المساء. وصلت إلى الغرفة العلية — علية صغيرة مليئة دانتيل أمها العتيق وصور باهتة — فتوقفت مندهشة بصوت طنين رقيق ينساب عبر العوارض. لمعة ناعمة نابضة كضوء القمر كشفت عن هيئة مغطاة بخيوط فضية تلمع بين ذرات الغبار المتلألئة. كانت عينا المرأة رقيقتين صافيتين كبحيرة جبلية، نظرت إلى سندريلا بدفء أمومي. همست: «يا طفلتي»، صوتها يتردّد كما لو تغنّي به جرس نسيم، «لقد نسج لطفك نسيجًا أبهى من أي تاج ملكي.» حملت بيدها عصا مرصّعة بكوارتز وردي وأغصان خزامى، رمزان للشفاء والأمل. ارتعشت سندريلا وهي تسألها كيف عرفت ولماذا جاءت. ابتسمت المرأة وتقدمت عبر أشعّة الغبار المتناثرة. قالت: «أنت تقفين على عتبة قدرك، لكن بحلول دقات منتصف الليل سيعود هذا السحر إلى الأرض.» وبخفة من معصمها، تعالت رماد تحت قدمي سندريلا ليدور في الهواء ويتحوّل إلى شلال من اللآلئ وسكر غزل. رغم دهشتها التي جذبتها إلى الأرض، حلق قلب سندريلا مرفوعًا، مرتاحة بيقين أن أحلامها على وشك أن تُحلّق.
سحر الحفل
بحركة رقيقة من عصاها ذات كوارتز الورد، استدعَت الجنية العرّابة وهجًا طرد كآبة حجرات سندريلا المتواضعة. تحوّلت جمرات الرماد عند قدميها إلى جزيئات مضيئة، رافعة أطراف ثوبها الممزق كما لو تهمس له بأسرار التحول. أمام عينيها، تشكّل ثوب من حرير نسجته خيوط القمر وبتلات قبلها الندى، بلون خزامى ودرجات لؤلؤية. تبلورت نعال زجاجية دقيقة عند قدميها، تلتقط بريق الفوانيس أعلاها وتكسر النور إلى أقواس طيفية. عند باب الكوخ، تحوّلت اليقطينة المتهرّئة إلى عربة مزخرفة بعجلات محفورة من نقوش فضية، تجرّها أربع فئران ألباستر صغيرة بزوائد جلدية متقنة. يقف على المقود سائق منسوج من نور النجوم، وقبعته مزدانة بعناقيد الوستريا. وقفت سندريلا بلا نفس حين تدحرج الباب كاشفًا طريقًا مضاءً بفوانيس طافية تتجه صوب قصر بيلمون. كل خطوة تفترن منها غيمة من غبار لامع تتوهج كجمرات في هالة منتصف الليل. مع أن قلبها كان يدق كطبلة رعوية، خطت واثقة، موجهة بنعمة مُنحت لها لتوّها. حمل الهواء ليلاً عبير الياسمين ووعدًا متوهجًا، ينسج نفسه خلال نوافذ قدرها. في تلك اللحظة المسحورة، تلاشى الحد الفاصل بين الواجب والحلم، ولم يبقَ سوى روح شجاعة مستعدة للتمايل بين النجوم.
جرّتها خيول خرافية بفراء لامع يشبه السحب المتفلّتة، وحملت العربة الشفافة سندريلا عبر طرق فضية تلفّها الضباب في غابات مبللة بالندى. انحنَت الأشجار بلطف للطريق، وأوراقها تلمع في رقصة ضوئية بينما يرقص القمر على أغصانها. رقدت البومات مصفقَة بصمت، ترمش بعينيها التوأم لدى مرورها، وفتحت الأزهار الليلية بتلاتها لتحيّيها بعطرٍ فاتن. داخل مقصورة العربة الفخمة، احتضنت وسائد مخملية جسدها المذهول وهي تتأمل التطريز الدقيق على كل درزة. نسيم يحمل ألحان الهاربسشورد انجلى في الهواء، امتزج بأصداء الطبول والبوق البعيدة من التراس. عبر نافذة مشبكة لمحت ظلّ القصر، أبراجه متوّجة بالذهب ونوافذه تتوهّج كحراس يقظين. دبّ في صدرها شعور بالرهبة والعجب، كأنها دخلت حلمًا نُسِج بأشعة القمر وأساطير همس. بدا السفر بلا زمان، شريط سحري ينفكّ عند قدميها، يحملها نحو ليلة ستغيّر مجرى حياتها. كل نبضة قلب كانت نغمة أوركسترالية، وكل نفس ينبض ثقلًا من الترقب. أخيرًا، تباطأت العربة تحت قوس مزدان بأكاليل وستريا وفوانيس مرتعشة، فاتحة لها باب عالم الحضور الأنيق. بيدين مرتجفتين، ارتفعت لتقف أمام باب تحفه أعمدة مذهّبة.
داخل البهو الكبير للقصر، كانت ثريات الكريستال المتلألئة تنثر نقاط ضوء راقصة على أرضية الرخام، مضيئة لوحات جدارية لأبطال أسطوريين ومشاهد رعوية هادئة. رنين كؤوس الكريستال ارتعش احتفالًا هادئًا بينما الحاشية بملابس المخمل والثياب المطرّزة تتبادل الهمسات، وضحكهم يدق كأجراس فضية تردّد صداها بين أقواس القاعة. ترددت سندريلا عند العتبة، وثوبها الخزامي ونعالها الحريرية أثارا دهشة الحضور. شعرت وكأنها تطفو في الهواء نفسه، كل خطوة لمسة ناعمة على الحجر المصقول. ساد صمت حين عرف الحضور بأمر قدومها، وانقلبت الرؤوس النبيلة بفضول إجماعي. الأمير، ببدلة محكمة مطرزة بخيوط ذهبية، توقف في مسراته عندما دخلت، وعيناه الداكنتان تعكسان عجبًا حقيقيًا. انحنى وقدّم يدًا مغطاة بقفاز كانت ترتجف قليلًا من التوق، كما لو أن دفء روحها العفويّة جذبه إليه. عندما وضعت سندريلا يدها الصغيرة في يده، ارتدّ رنين أجشّ كجرس من زوايا البهو غير المرئية، كأن الجدران نفسها تهنئ على اللقاء. معًا انزلقت قدماه في رقصة وُلتز كأنها أوقفت الزمان، ولحن الأوركسترا يدور حولهما كشريط حريري. كانت كل حركة خاصة وحاشدة في آن، تقارب بين روحين قدّر لهما أن تلتقيا. في تلك اللحظة، اختفى العالم وراء جدران القصر، محجوبًا أمام الوشائج المتلألئة اللتين جمعتهما تحت القبة المقببة.
عندما رنّت أول دقة من ساعة القصر، تألقت قرص زجاجية ملونة تحت أشعة المشاعل، معلنة اقتراب منتصف الليل. تسرّع نبض سندريلا كطبل حرب، وكل ثانية تخفق بثقل تحذير الجنية العرّابة. اقتربت أكثر من الأمير، واللحن يتلوّى بينما الملابس حولهما تلمع وتبدأ في التفكك. دقتة أخيرة علت، وتشقق النعال الزجاجية كثلج رفيع، تفرّق قصاصات السحر عبر أرضية الرخام. استبدّ الذعر بأنفاسها حين تبددت خيول العربة الشبحية إلى جزيئات غبار ذهبي على عتبة البهو. دون أن تلتفت، ركضت بين التنانير المتداخلة والضيوف المذهولين، يتبخّر ثوبها كذيل مذنب. اندفع الأمير نحوها، فقد تاه صوته في صخب الحفل ولم يفلح في جسر المسافة المتزايدة بينهما. يائسة، تسلّقت السلالم الدوّارة على ضوء المشاعل، وقلبها يقرع في صدرها كأنه يريد الانفلات. عند المدخل الأخير علِق كعبها في حجر مهترئ، ونسلّ منها النعال — كعب بلوري رقيق رنّ في الردهة الصامتة أدناه. انحنت فقط لبرهة لتلتقطه، عيونها مبللة بالدموع وعزيمة في صوتها، ثم اختفت في عباءة الليل المخمليّة. ومع رحيلها، خفت صوت دقات ساعة القصر، تاركة صدى فارغًا ووعدًا بلقاء قادم.
مع نور الفجر الباهت، تلاشت ذكريات السحر كما الضباب على السين، ولم يبقَ سوى همسات عن فتاة اختفت عند منتصف الليل. جلس الأمير، بملابس مخملية وفيه الأسى، بجانب الحذاء المتروك بينما تجاجت خيوط الصباح حول كتفيه. كان الحذاء من أنقى الكريستال، سطحه يعكس مجرة من الإمكانات ووعد حب يتحدى الفوارق الاجتماعية. عازمًا على إيجاد صاحبة هذه الرمزية الهشّة، استدعى أقرب مساعديه، وأمرهم بأن يطوفوا كل قرية وطريق عبر فرنسا. أخضع كل خادمة للحضور، وكل قدم فشلت في ملاءمة النعل انحنت احترامًا، وأحلامهن هشة كالزجاج. مع ذلك، زاد الأمل في قلبه مع كل رفض، مدفوعًا بذاكرة صوت ضحكتها ودفء عينيها الداكنتين. وفي أثناء ذلك، انتشرت الشائعات كالنار في الهشيم، تحمل قصصًا عن امرأة بثوب خزامي اختفت كأنها تنهيدة. عادت سندريلا إلى موقدها المغطى بالسخام وهي تجرؤ على الإيمان أن القدر قد ختم وجوده في كعب بلوري واحد. اعتنت بتلك النعلة كوعْد سري، تخفيها بجانب صورة أمها كلما أغلقت أبواب الجسر. عبر الطرق المتعرجة والقاعات المقدسة، صار الحذاء البلوري منارة أمل لكل من يجرؤ على الحلم. وهكذا، مع صعود شمس جديدة فوق حقول الخزامى، حبَس الملكوم أنفاسه، انتظارًا لقاء يولد من الإصرار والرحمة ولطف لا يلين.
صاحبة الحذاء الحقيقية
قبل أن تبلغ الشمس منتصف السماء، انطلق الأمير في رحلته، والحذاء البلوري محتضن في صندوق مبطّن بالمخمل تحت عباءته. برفقة حاشية من النبلاء والملحقين، اجتاز ممرات جبلية متعرجة وسهولًا ذهبية القمح، سائلًا في كل قصر وكل كوخ فلاح. استُقبل في كل بيت بانحناءات مهيبة، رغم أن أقدام معظم الفتيات كانت إما نحيفة جدًا أو عريضة جدًا على الزجاج الرقيق. تجمّع أهل البلد حول مواكبته، تحركت قصصهم عن جمال غامض شعاع أمل لمستقبل يتجاوز العبودية. الأطفال لحقوا بالعربة المزخرفة، ينسجون أكاليل من الأقحوان كما لو كانوا ينسجون أحلامهم الخاصة. في نُزُلٍ قرب النهر، توقّف المسافرون ليتبادلوا شائعات عن امرأة بثوب خزامي اختفت كزفرة. ومع الحماسة، انسلّت الساعات كحبات رمل، وبقي الحذاء بلا صاحب — نجمة وحيدة تنتظر أن تُسمّى. تعمّق إصرار الأمير مع كل رفض، تغذيه ذاكرة ابتسامتها الرقيقة والموسيقى التي ربطت أرواحهما. عبر طرق مكسوة بالمطر ودروب مشبّعة شمسًا، واصل المسير، رافضًا أن تتراجع أجنحة القدر. حتى أبراج القصر القديمة بدت وكأنها تميل في اتجاه رحلته، كأنها توجهه إلى البيت. لم يكن بحثه مجرد عن حذاء، بل عن وعد نقش على الزجاج والقلب معًا.
لمّا رسم الفجر الأفق بدرجات المرجان والذهب، توقفت القافلة أمام كوخ متواضع على هامش حقول الخزامى. كانت شُرفاته الخشبية باهتة بمرور الزمن، وحديقته تكتسي زعترًا بريًا وإكليل الجبل بدلًا من ورود مُعتنى بها. في الداخل، كانتا الأختان مشغولتين، تمايلت زينات رأسيهما الصاخبة أثناء رقصهما على لحن كمان حي والهنّ يلمعن أحذية غير متطابقة. استقبلت مدام دو سوفيرتر الأمير بانحناءة درّبتها أكثر مما كانت صادقة، ونظراتها تنزلق نحو الموقد البالي حيث عادة ما تعمل سندريلا. عرضت إلويز أولًا، وقد لفّت قدمها بشرائط وقشّ لتقليد شكل الحذاء، لكن الحذاء الكريستالي رفض كل انسياباته. أهدرّت إلويز كبرياءها ودفعت قدميها وصفّرت كأن الحذاء نفسه لعنه جسدها. لم تنجح مارجريت أيضًا، وقد استشرى تجاهل الحذاء لها. ولما استدار الأمير بعيدًا وكاد يرضى بمزاج القدر القاسي، تقدمت سندريلا مترددة، أمل حذر يتفتح فيها كوردة صحراء.
خرجت سندريلا من خلف ستارة الدانتيل، ثوب عملها باهت ولكن وقفتها ملكية كأي دوقة. عمّ الصمت الفناء أمام حضورها، وتوقفت الطيور في منتصف طيرانها لتشهد المشهد. بيدين مرتجفتين، رفعت قدمها عارية غير مزينة وأسرعتها نحو الحذاء الكريستالي. رحّب الحذاء بها كما لو خُلِق لها وحدها، انزلق على كعبها بهسيسة تأكيد. لمع نور الاعتراف في عيون الأمير، وارتفعت بينه وبين الحذاء حوارات صامتة من الدهشة والفرح. تسارعت الهمهمات في أرجاء المنزل، وحتى الموقد العتيق بدا كما لو أنه تأجج بقوة متجددة. اصفرّ وجه مدام دو سوفيرتر، وتحطمت رباطة جأشها مثل جليد رقيق تحت شمس دافئة. إلويز ومارجريت وقفتا بفم مفتوح، تلاشت تجهماتهما الغيورة وتحولت إلى رهبة مذهولة. لبرهة، حبس العالم أنفاسه بينما تجلّت القدرية أمام أعين الجميع. ثم، بصوت جليل ومُهلّل معًا، أعلن الأمير أن سندريلا هي المالكة الحقيقية لهذه التحفة الزجاجية. وقفت أمامه مُشرقة بتواضع يفوق بريق أي تاج مرصع.
ومع انتشار خبر إعلان الأمير، انفجر الكوخ الذي كان هادئًا مرة واحدة بحركة حيوية، والجُدُد يركضون لإحضار المشاعل وإبلاغ القصر. دخل الحرس بدرع لامع ورايات زرقاء ملكية، وأصدرت أحذيتهم صدى فوق الحجارة المخضبة بندى الصباح. صعدت سندريلا درجات العربة التي أحضرته، وتلاقت نظراتها مع نظراته بشكر هادئ وثقة لا تتزعزع. مدام دو سوفيرتر، شفتاها مضغوطة في خط جامد، رمقت وهي تدرك أن حيلتها قد تكشّفت أمام أعينها. انحنت الأختان بخجل، وقد أدركتا أخيرًا أن القسوة لا تقف في وجه التعاطف والعزيمة. بابتسامة مهذبة، دعت سندريلا إلى التسامح، ممدّة يدًا ترتجف من التعاطف وحده. رفع الأمير ذقنها، وابتسامته كانت مشعة تكاد تنافس شمس الصباح، وعرّف بها كرفيقة اختارها أمام البلاط المجتمع أدناه. في فعل حَمَل ثقل العدل، أعلن أنه لن يكون لأي مقعد على مائدته بريق أكثر من ذلك المخصّص لها. بينما رقصت رايات القصر في الأعلى، شعرت سندريلا أن قيود ماضيها ترتخي، وتستبدلها وعود مستقبل منسوج بالتعاطف والشجاعة. كان لحظة ستحْفر في الأسطورة، شهادة على أن اللطف يُكافأ والمثابرة تُنتصر. وهكذا، بجانب من رأى قيمتها، خطت نحو مصير مبني ليس على النسب بل على نقاء القلب.
فيما بعد، داخل المذبح المضيء بضوء بتلات الورد، تبادلَت سندريلا والأمير عهودهما تحت قوس وستريا مزهر وأماني مشتعلة بالشموع. تعانقت أصواتهما في وعد نقشته المحبة وصقلته المحن التي مرّتا بها على مواقد مغطاة بالغبار وقاعات متلألئة على حد سواء. في الخارج، تلمّعت الحجارة المرصوفة في أول مطر للربيع، مباركة اتحادهما بشلال من القطرات الفضية. اجتمع الضيوف من كل أركان المملكة ليروا تحول خادمة إلى الملكة المحبوبة. وقفت إلويز ومارغريت بجانبها، بثياب متواضعة وبوجوه لينة بالتسامح وفخر مُعتدل. قدمت مدام دو سوفيرتر، وقد تذوب كبسمة متواضعة ومُصالحة بفضل نعمة ابنتها، بركة دمعة تتحدث عن قلوب قد تغيرت وروابط ألُّفت من جديد. بعد المراسم، احتفل البلاط على موائد مكدّسة بالفواكه والفطائر واللوز المسكّر، رمزًا لوفرة وُلدت من الرحمة. في الحدائق، انطفأت الفوانيس فوق أشجار الورد، تلمع كنجوم ساقطة بينما شاركا سندريلا والأمير رقصتهما الأولى كزوجين. رقصت ظلالهما تحت قبة من ضوء القمر والألعاب النارية، وكأن السماء نفسها تفرح باتحادهما. في كل مكان نظرت إليه، رأت انعكاسات رحلتها — من المقاعد المنحوتة التي كانت تنظفها إلى النعال البلورية التي أمست إلى جانب عرشها. وهكذا، اعتلت الفتاة التي كانت تَغمر الرماد تحت الموقد المتواضع حياةً ملؤها الحب والغرض، مُثبتة أن القلب المشدود باللطف قادر على إشعال سحره الخاص.
خاتمة
في السنوات التي تلت، حكمت الملكة سندريلا بجميل لطف ومثابرة لا تتزعزع — نفس الصفات التي أيقظت قلب الأمير في المرة الأولى. كل صباح كانت تمشي بين حدائق القصر، ونعالها الحريرية تتبع طرقًا تصطف بالخزامى والورد، سلامها على البستانيين والخدم لامس قلوبهم وذكّرهم بمواقد متربّة وبدايات متواضعة. دافعت عن حقوق العاملين، واضعة ساعات عمل عادلة لأولئك الذين يجتهدون في الصوامع والأسواق، فكانت تجربتها الشخصية مصدر إلهام لإصلاحات راسخة في الرحمة. أشرقت ثريات القاعة في احتفالات تجمع العامة والنبلاء معًا، لتوحّد مملكة كانت منقسمة بالرتب والامتيازات. صارت إلويز ومارغريت من أقرب مستشاراتها، قوّت رابطتهن الأخوية بالتسامح والأحلام المشتركة. حتى مدام دو سوفيرتر وجدت فرحتها في الخدمة بدلًا من الاحتقار، فأرسَت تقاليد جديدة من اللطف والكرم. وعندما يكسو الغسق المملكة بلون البنفسج، كانت الملكة تتأخر عند الموقد — ليس لتلتقط الرماد بعد الآن، بل لإشعال الشموع التي تضيء طريق العائدين المتعبين. في كل فعل من أعمال الخير تلك، عاش سردها: دليل على أن النبل الحقيقي لا ينبع من حقوق المولد، بل من صمود القلب الرقيق.
