في الصين القديمة، كان هناك زمنٌ ارتجفت فيه الأرض تحت وهج عشر شموسٍ متلألئة. لم تكن هذه الأجرام السماوية مجرد أجسام فلكية؛ بل كانوا إخوة وُلِدوا من إلهة الشمس شيخه وزوجها دي جون، إله السماء الشرقية. كان من المفترض أن تعبر السماء كل يوم شمسٌ واحدة لتمنح العالم أسفله النور والدفء. لكن في يومٍ مشؤومٍ، تملَّك الشموس العشر شعورٌ بعدم الرضا. أرادوا أن يجوبوا السماء معًا، وهو فعلٌ كان سيجلب حرارةً لا تُطاق وفوضى، ممهِّدًا لحكايةٍ عن الشجاعة والتضحية وتوازن الطبيعة.
شقاوة الشموس العشر
في شبابهم المتلألئ، كانت الشموس العشر مفعمةً بالحياة والفضول. نهارًا كانوا يتناوبون على إضاءة العالم، وليلًا يعودون إلى أمهم شيخه التي تُلقي على كل واحدٍ منهم سريرًا من النجوم. لكن مع نمو الشموس ازداد شوقهم للمغامرة والرفقة. شعروا بأن روتين ظهور أخٍ واحدٍ في السماء يقيدهم، فدبَّروا خطةً للصعود معًا، متلهفين لرؤية العالم يغمره ضوؤهم الموحد.
في ذلك الصباح المشؤوم صعدوا معًا، وامتزج وهجهم ليكوِّن ضوءًا مبهرًا عمَّ الأرض. ومع تزايد حرارتهم، جفت الأنهار، وذبلت المحاصيل، ولجأ الناس والحيوانات على حدٍ سواء إلى الملاجئ هربًا من الوهج اللاهِب. القرى التي كانت تزدهر في الوديان الخصبة صارت قفارًا تحت وطأة هذا الهجوم الحارق. عمَّ الرعب البلاد، وخافت القلوب من قرب النهاية، فارتفعت همسات الأدعية إلى مسامع الآلهة.
تأثر دي جون، والد الشموس، بمعاناة البشر، لكنه لم يحتمل أن يؤذي أبنائه. حاول التفاهم معهم وتضرع إليهم أن يعودوا إلى نظامهم القديم، لكن كلماته سقطت على آذانٍ صماء. كانت الشموس مسحورةً بحريتها الجديدة، غير مباليةٍ بالخراب الذي أحدثته. يائسًا لإنقاذ العالم، استدعى دي جون أعظم محاربيه، هو يي، الرامي الشهير والبطل المعروف بدقته التي لا تُخطئ وقلبه الثابت.
مهمة هو يي
سمعة هو يي كرامٍ ماهرٍ وحامٍ وصلت إلى كل بقعة. حكايات بطولاته انتشرت في كل قرية ومدينة، وقيل إن حكمته لا تُضاهى. ومع ذلك، بدا التحدي أمامه مستحيلًا: لم يكن مقاتلًا في مواجهة بشرٍ عاديين، بل سيواجه أبناء دي جون العشرة الساطعين، كلٌ منهم يملك قوةً قادرةً على إحراق الأرض.
قبل هو يي طلب دي جون بقلبٍ مثقل، واعيًا بثقل المهمة. صعد إلى أعلى قمم الجبل حاملاً قوسه الأسطوري من اليشم الأحمر وجعبةً مملوءةً بالسهام الذهبية التي صاغتها الآلهة بيديها. من مرصده العالي شاهد الخراب الذي خلَّفته الشموس — أنهارًا تحولت إلى مجاري جافة، وغاباتٍ صارت كومةً من الرماد، وأراضٍ كانت خضراء خصبة باتت مساحات شاسعة من التراب اليابس. أوجع ذلك قلبه على قومه، وتصلّب عزمه.
أخذ نفسًا عميقًا، وضع سهمه الأول على الوتر وسحب قوسه وهو يصوّب إلى إحدى الشموس. أطلق السهم فشق السماء كمذنبٍ، فأصاب الشمس بدقة فانطفأ ضوؤها وسقطت من السماء، فلم يبقَ إلا تسعة.
ومع استمرار هو يي في مهمته، لم يشعر بأي فرحٍ مع كل سهمٍ يطلقه. فبينما كان ينقذ الأرض، كان أيضًا يزهق أرواح أبناء دي جون، إخوةً لم يريدوا سوى الحرية واللعب. مع كل طلقةٍ همَس بدعاءٍ صامتٍ، راجيًا أن يُدرك الناس تضحياته.
الشمس الأخيرة
مع سقوط شمسٍ إثر أخرى بسهام هو يي، خفت نحم السماء شيئًا فشيئًا وتراجع الحرُّ الشديد أخيرًا. وبقيت شمسٌ واحدة في السماوات فأخذ العالم يتنفّس الصعداء من وهج الحرّ، وعاد الدفء اللطيف إلى الأرض. لكن هو يي تردد. كانت الشمس الأخيرة معلّقةً في السماء، تلقي بوهجٍ ذهبيٍ يذكّره بالتوازن الذي حارب من أجله.
في تلك اللحظة ظهر دي جون، وقد ارتسم على وجهه مزيجٌ من الحزن والامتنان. كان قد شهد سهام هو يي تسقط أبنائه، وكان يعي ضرورة الفعل حتى وهو يمزق قلبه. تقدم نحو هو يي وتكلّم بصوتٍ يعتصره الأسى:
"لقد أنقذتَ الأرض يا هو يي،" قال، "لكنّي أرجوك أن ترحم ابني الأخير، لينهض بالضوء والدفء وحده كما خُصّص له أن يفعل."
أومأ هو يي وخفض قوسه. فهم أن الشمس المتبقية ستقوم بمهمة العشر كلها، وتشرق كل يوم لتُنير العالم. لقد عاد التوازن، وستستمر الأرض في الحياة شاكرةً لمسة الشمس الواحدة الرقيقة.
حياة تغيرت
عاد هو يي إلى قريته، لكنه لم يعد نفس الرجل الذي انطلق في رحلته. حظي بالتكريم كبطلٍ، لكن قلبه ظل مثقلاً بذكرى الشموس التي أسقطها. باحثًا عن السلام، انسحب إلى العزلة آملاً أن يجد السلوان في هدوء الغابة. لكن قصته امتدت بعيدًا، وسرعان ما بدأ الناس يأتون إليه طالبين الحكمة والإرشاد، فقد صار أسطورةً حية.
من بين الذين لجؤوا إلى هو يي طالبين النصح، ظهرت شابةٌ تُدعى تشانغ-إي. كانت رشيقة ومليئةً باللطف، وقلبها طاهر ومفعم بالتعاطف. رأت تشانغ-إي ما وراء أفعال هو يي وفهمت العبء الذي يحمله. برقتها أعادت النور إلى حياته، فأصبحت رفيقته المحبوبة. معًا صارا موقَّرين، وأصبحت قصتهما رمزًا للوحدة والتضحية، تُحكى وتُغنى في كل أرجاء البلاد.
لكن قصة هو يي لم تنتهِ بزواجه. الآلهة، مملوءةً بالامتنان والأسى في آنٍ واحد، قدّموا له هبةَ الخلود. رفض هو يي أن يُصبح خالدًا، مُختارًا أن يعيش حياةً فانيةً بجانب محبوبته. قَبِل إكسيرَ خلودٍ واحدًا وأخفاه بعناية، راغبًا في حياةٍ متواضعةٍ هادئةٍ إلى جانب تشانغ-إي.
صعود تشانغ-إي
رغم نواياه، كانت للقدر خطة أخرى. في يومٍ ما اكتشف رجلٌ يدعى فينغمينغ وجود الإكسير، وكان مفعمًا بالغيرة والطمع من مهارة هو يي وسمعته، فخطط لسرقته. في ليلةٍ مشؤومةٍ اقتحم فينغمينغ منزل هو يي بينما كان الأخير غائبًا.
رأت تشانغ-إي خيانةَ فينغمينغ فاختارت حماية الإكسير وكرامة هو يي. شربت الإكسير بنفسها، وفي لحظةٍ تحولٍ ارتفعت قوتها السماوية؛ أصبح جسدها أخفّ، وجذبتها قوةٌ سماوية إلى الأعلى مبتعدةً عن العالم الفاني. عاد هو يي ليرى محبوبته ترتفع في السماء، وعيناها المملوءتان بالدموع معلقتان به وهي تبتعد أكثر فأكثر.
غير قادرٍ على اللحاق بها، لم يستطع هو يي إلا أن يراقبها وهي تندمج صورتها مع القمر البعيد. أصبحت تشانغ-إي إلهة القمر، شخصيةً نيرة تظلّ تراقب الأرض ومحبوبها هو يي إلى الأبد.
اللقاء الأبدي
رغم الفراق بين العوالم، بقي حب هو يي وتشانغ-إي خالدًا. كان هو يي يقضي كل ليلة محدقًا في القمر، وفي اليوم الخامس عشر من كل شهر قمري كان القمر يتوهّج بأقصى بهائه، كما لو أن تشانغ-إي تقترب منه بنفسها. لاحظ القرويون ذلك، ونشأ حول الأسطورة مهرجانٌ تُقدَّم فيه فطائر القمر وصلواتٌ للأحبة توحّد العائلات، احتفاءً بحبٍ تحدّى حتى المسافة بين السماء والأرض.
إلى اليوم يحتفل مهرجان منتصف الخريف بهو يي وتشانغ-إي، الرامي وحبيبته، اللذين رغم الهوة الشاسعة بينهما ظلّا موصولين بالحب. أصبحت قصتهما أسطورةً تذَكّر كلَّ من يسمعها بالتضحية التي تحافظ على التوازن، وبالشجاعة التي تهزم المستحيل، وبالحب الأبدي الذي يربط حتى الشمس والقمر.
