بهاغافاد جيتا اختيار آخر أكثر وضوحاً كعنوان كتاب: كتاب بهاغافاد جيتا

مأزق أرجونا

كانت معركة كوروكشترا وشيكة. وقفت جيوشان عظميان على أهبة القتال — الباندافاس والكاورافاس — وكلٌّ منهما مستعد لخوض حرب ستحسم مصير المملكة. عندما نظر أرجونا، أحد أشدّ محاربي باندافاس، عبر ساحة المعركة، وقع بصره على وجوه أقاربه ومعلميه وأصدقائه المألوفين. أغرقه المشهد بالحزن والشك.

"كيف لي أن أقاتل أهلي ومعلميّ المبجلين؟" تساءل في قلبه. ثقل الحرب أنهك قلبه. خفّض قوسه، غانديفا، ووجّه نظره إلى كريشنا، سائقه في العربة طالبًا الهداية.

ابتسم كريشنا، مجسّدًا الإلهي والصديق الحكيم. كان يعلم أن عذاب أرجونا أكثر من مجرد تردد في القتال — كان أزمة روحية عميقة. أرجونا، المحارب الذي لم يعرف الهزيمة في المعارك، صار الآن يواجه مخاوفه وريبته الأعمق.

"يا أرجونا،" قال كريشنا، "لماذا تندب أمرًا زائلًا؟ الذات أبدية؛ لا تولد ولا تموت. ما تراه حياةً وموتًا ليس إلا مظاهر عابرة."

ما زال أرجونا مكبّلًا بالشك محتجًا: "لكن يا كريشنا، كيف أقتل شيوخي وأقاربي وأصدقائي؟ سيكون ذلك إثمًا أن ألحق بهم ضررًا. حتى لو كانوا مخطئين، لا أستطيع تبرير العنف."

هذه الكلمات كانت نواة تعاليم الغيتا.

طبيعة الذات

بدأ كريشنا يشرح الطبيعة الأبدية للذات. "أرجونا، الذات خالدة؛ لا تُهلك بموت الجسد. كما يخلع الإنسان ثيابًا بالية ويرتدي ثيابًا جديدة، تخلع الذات الأجساد القديمة وتنتقل إلى أجساد جديدة. لذا لا ينبغي أن تحزن على الأحياء ولا على الأموات."

استمع أرجونا بتركيز، لكن الصراع في قلبه لم يزل قائمًا. لم يفارقه شعور أن قتال أقاربه خطأ بحد ذاته. سأل: "ولكن يا كريشنا، حتى لو كانت الذات أبدية، ألا تُترَك أفعالي في هذه الحياة بعواقب؟ ألن يجلب قتل أهلي كارما سيئة ويدمرني؟"

ابتسم كريشنا مجددًا بعينين ملؤهما الشفق. "يا أرجونا، حيرتك ناتجة عن فهم خاطئ للفعل والواجب. أنت كشاتريا (محارب)، وواجبك القتال في هذه الحرب من أجل الحق. الفعل إذا أُدي دون تعلق بالنتائج لا يقيّد المرء في دورة الكارما. ما يهُم ليس النتيجة بحد ذاتها، بل نقاء النية والتفاني في أداء الواجب."

تساءل أرجونا محتارًا: "وكيف أفعل بلا تعلق بالنتائج؟"

شرح كريشنا حينها طريق العمل النبيل.

كارما يوغا – طريق العمل بلا تعلق

"يا أرجونا،" تابع كريشنا، "العالم قائم بفعل الفعل. حتى أنا، الكائن الأسمى، أعمل دون انتظار مكسب شخصي. أنت أيضًا إن واصلت العمل دون تعلق بثمرة العمل، تتجاوز الكارما."

يعلّم هذا المبدأ، المعروف بكارما يوغا، أن التركيز ينبغي أن يكون على الفعل ذاته لا على ما سيجلبه. بالقيام بذلك يظل المرء طليقًا من آثار الكارما وحيًا بسلام داخلي وإحساس بالإنجاز.

حثّ كريشنا أرجونا على رؤية ما وراء النتائج الفورية للمعركة: "يجب أن تقاتل، ليس لأنك ترغب في النصر، بل لأن واجبك الحفاظ على الاستقامة. أسلِم ثمار أفعالك لي وابقَ متباعدًا عن التعلق."

بينما كان أرجونا لا يزال يكافح للتوفيق بين قلبه وعقله سأل: "ولكن يا كريشنا، أليس ثمة طريق آخر غير الفعل؟ ماذا عن المعرفة؟ ألا يمكن بلوغ التحرر عبر الحكمة وحدها؟"

قاد هذا السؤال كريشنا إلى تقديم مسار آخر.

جنّانا يوغا – طريق المعرفة

بدأ كريشنا يبيّن أهمية العلم والحكمة في فهم الطبيعة الحقيقية للواقع.

"بالفعل يا أرجونا، المعرفة ضرورية. عبر الحكمة يستطيع المرء أن يرى وحدة كل الأشياء. الحكماء لا يميزون بين عالم متعلم أو بقرة أو فيل أو حتى كلب؛ فهم يدركون أن الذات في كل الكائنات واحدة."

يتضمن طريق جنّانا يوغا السعي إلى المعرفة لتجاوز الجهل وإدراك الحقيقة المطلقة. بتنمية الحكمة يتغلب المرء على أوهام العالم المادي ويرى الإلهي في كل شيء.

ومع ذلك حذر كريشنا من أن المعرفة وحدها ناقصة دون عمل. "الحكمة الحقيقية تقود إلى عمل بلا أنانية. حتى الحكماء يفعلون في العالم، يؤدون واجباتهم وهم متحرّرون من التعلّق."

بدأ أرجونا يستوعب معنى كلمات كريشنا، لكن كان هناك بعد آخر في الممارسة الروحية أراد كريشنا أن يوضحه له.

بهكتي يوغا – طريق التفاني

تحدّث كريشنا عن بهكتي يوغا، طريق التفاني والخشوع للإله.

"يا أرجونا، أعظم السبل هو التفاني. عندما ينقاد المرء إليّ تمامًا بمحبةٍ وإخلاص، أتكفّل بكل همومه. العابد الذي يذكرني دائمًا، والذي يراني في كل شيء، والذي يهب قلْبه إليّ هو أعزّ المقربين إليّ."

من خلال بهكتي يمكن للمرء أن يبني علاقة شخصية مع الإله ويجد سلامًا في تسليم الأنا. إنه طريق المحبة، حيث تُقدَّم أفعال المخلص وأفكاره وكلماته في خدمة الإله.

ملأت كلمات كريشنا قلب أرجونا بالأمل والوضوح. بدأ ثقل شكوكه يخفّ حين أدرك أن صراعه الداخلي لم يكن حول المعركة بحد ذاتها، بل حول فهم دوره في النظام الكوني الأوسع.

رؤية الهيئة الكونية

عندما أصبح ذهن أرجونا أكثر تقبّلًا لتعاليم كريشنا، كشف له كريشنا عن صورته الإلهية الحقيقية. لم يعد أرجونا يراه كسائقه في العربة، بل كالكائن الأسمى الذي يحتضن الكون كله في هيئته اللامتناهية.

فأصاب هذه الرؤية أرجونا بالرهبة والإجلال. رأى الكون بأسره — الماضي والحاضر والمستقبل — يتكشف أمامه. رأى كل الكائنات، من أصغر المخلوقات إلى أعظم الآلهة، كجزءٍ من جسد كريشنا الإلهي.

مرتعدًا بين الخوف والدهشة قال أرجونا: "يا رب، أرى الكون كله فيك. أنت الخالق والمحافظ والمدمّر لكل شيء. كيف يمكنني إدراك عظمتك؟"

أجاب كريشنا في صورته الكونية: "ما تراه هو جزء يسير من طبيعتي الحقيقية. أنا أبعد ممّا يمكنك إدراكه، ومع ذلك أنا في كل شيء. أنا مصدر كل شيء وأمتد في كامل الخلق."

عمّقَت هذه الرؤية فهم أرجونا لواجبه وطبيعة الكون.

التسليم والتحرّر

بعد أن تأمل أرجونا في صورة كريشنا الإلهية، تلاشت شكوكه أخيرًا. أدرك أن معركة كوروكشترا لم تكن مجرد صراع مادي، بل رمز للصراع الأبدي بين الحق والباطل.

قال أرجونا: "يا كريشنا، لقد أرَيتني الطريق. أفهم الآن أن واجبي أن أقاتل ليس طلبًا لمكاسب شخصية، بل للحفاظ على قانون الدارما الأزلي. أستسلم لإرادتك، فاهدني."

سرّ كريشنا باستسلام أرجونا وأكد له: "لا تخف يا أرجونا. من يسلكون طريق الحق بإيمانٍ وتفانٍ هم في حمايتي دائمًا. قم بواجباتك دون تعلق، وستبلغ التحرّر."

بداية المعركة

بعد أن زالت شكوكه وامتلأ قلبه بتعاليم كريشنا، التقط أرجونا قوسه غانديفا مرة أخرى. صافى ذهنه وتجدد هدفه. بدأت المعركة العظيمة في كوروكشترا.

حين تصادمت الجيوش، قاتل أرجونا بروح متحررة من التعلّق، لم يعد هاجسه النصر أو الهزيمة. قاتل ليس من أجل نفسه بل من أجل نصرة الاستقامة.

واصلت تعاليم الغيتا إرشاده طوال المعركة. ظل متماسكًا في تفانيه لكريشنا، يؤدي واجبه كمحارب دون أن يتعلّق بالنتائج.

إرث الغيتا

تمتد تعاليم البهاجافاد غيتا إلى ما وراء ساحة المعركة. رسالة العمل غير الأناني والتفاني والحكمة تُلامس الناس من مختلف الخلفيات والمعتقدات. إنها تتناول السعي الإنساني الدائم عن المعنى والغاية والسلام الداخلي.

امتدّ تأثير الغيتا عبر القرون والقارات. ألهمت نصوصها قادة عظامًا مثل المهاتما غاندي، الذي وجد فيها القوة لقيادة كفاح سلمي من أجل استقلال الهند. وقد لجأ الفلاسفة والعلماء والباحثون الروحيون إلى الغيتا بحثًا عن هداية لحياتهم الشخصية والمهنية.

في العصر الحديث تظلّ تعاليم الغيتا ذات صلة وصرامة. تشجع رسالتها على العيش بنزاهة، وأداء الواجبات بروحٍ هادفة، والبحث عن الجانب الإلهي داخل الذات وفي الآخرين.

الخاتمة – الحكمة الأبدية

الغيتا أكثر من نص مقدس؛ إنها دليل خالد للحياة المملوءة بالهدف والسلام والاكتمال. من خلال تعاليمها نتعلم أن الحياة رحلة، وأن هدفنا الأسمى هو إدراك طبيعتنا الحقيقية كذوات أبدية.

باتباع دروب المعرفة والعمل والتفاني نستطيع التغلب على أوهام العالم المادي وننال التحرّر الروحي.

تذكرنا الغيتا أنه مهما واجهنا من تحديات، لسنا وحدنا أبدًا. الحضور الإلهي دائمًا معنا، يهدينا ويحميَنا ويقودنا نحو الحقيقة المطلقة.