كوخولين، بطل بين الأبطال، يقف كأحد أبرز الشخصيات في الأساطير الإيرلندية. تروي قصته حكايةَ الشجاعة والتضحية وثِقَلِ القدَر. من مولده المعجزي إلى مآثره الفريدة في القوة والمهارة، وحتى المأساة التي وسمت أيامه الأخيرة، تتردّد أصداء قصة كوخولين عبر العصور كشهادة على الروح الخالدة لمقاتلي إيرلندا القدماء.
ولادة سيتانتا
تبدأ الأسطورة في مملكة ألستر، حين دخلت ديختين، أخت الملك كونتشوبار ماك نيسّا، في لقاء إلهي. أثناء سفرها مع جماعة صيد لجأت هي ورفاقها إلى بيتٍ غامض، وهناك استقبلهما زوجان من العالم الآخر وقُدِّم لهما مولودٌ ذكر. أعلن الزوجان أن الصبي مقدّرٌ للعظمة وأنه في رعاية الإله لوغ. وفي صباح اليوم التالي، اختفى البيت ووجدت ديختين نفسها حاملاً بطريقةٍ غامضة. سُمي هذا الطفل سيتانتا.
منذ نعومة أظفاره أبدى سيتانتا قوةً وذكاءً لافتين. تروى القصص كيف كان يتفوق على أقرانه في مسابقات المهارة والشجاعة. في الخامسة من عمره ترك أسرته وانضم إلى بلاط الملك كونتشوبار، حيث نال إعجاب المحاربين والنبلاء سريعاً.
مآثر الصبا
تميزت سنوات صبا سيتانتا بسردٍ مليء بالشجاعة والتهور، ما عُرف بمآثر الصبا. في طريقه إلى إمين ماكا، مقر الملك، صادف مجموعاتٍ من الصبية الأكبر سناً وهم يلعبون لعبة الهورلينغ التقليدية. رغم محاولاتهم ترهيبه، تفوّق عليهم سيتانتا في السرعة والمهارة والقوة. كان تفوّقه هائلاً حتى أن البالغين اندَهشوا من قدراته.
لم تخلُ تلك المآثر من تبعات؛ فتفوقه الطبيعي أثار غيرة الصبية الآخرين. ومع ذلك، كانت ثقته الراسخة وسرعة بديهته تجعلان منه مفضّلاً لدى الملك كونتشوبار الذي رأى فيه بذور العظمة.
كلب كولان
من أشهر حلقات شباب سيتانتا الحادثة التي أكسبته اسمه الشهير، كوخولين. خلال وليمة أقامها كولان، الحداد المشهور، دُعي سيتانتا للانضمام إلى الاحتفال. وصل متأخراً، ولم يكن يعلم أن كولان أطلق كلبه الحارس الشرس لحماية المكان.
هاجم الكلب دون سابق إنذار، لكن سيتانتا، المسلح فقط بمضرب الهورلينغ وكرة السليوتار، أوقع الكلب بضربة واحدة. عندما نعى كولان فقدان حارسه الوفي، عرض سيتانتا أن يحل محله حتى يُربّى حارس جديد. تأثر كولان بشجاعة الشاب وشرفه فوافق، ومن تلك اللحظة صار سيتانتا معروفاً باسم كوخولين — أي "كلب كولان".
التدريب مع سكاثاخ
مع نضوج كوخولين قادته رغبته في التعلم وصقل المهارات إلى ألبا، حيث درّبت المحاربة الأسطورية سكاثاخ أمهر المقاتلين في إيرلندا. كان حصنها، دون سكاث (حصن الظلال)، مكاناً للتجارب الشاقة والتحديات المميتة. هناك صقل كوخولين قدراته وأتقن استخدام الغاي بولغ، رمح قاتل لا ينجو منه العدو عادةً.
لم تقتصر تعاليم سكاثاخ على فنون القتال فحسب؛ بل غرست في تلامذتها الانضباط والاستراتيجية واحترام قانون المحارب. وأثناء تدريبه واجه كوخولين آيفة، منافسة سكاثاخ ومقاتلة شرسة بحد ذاتها. اشتبكا في قتال طاحن، لكن ذكاء كوخولين ومكره أعطياه اليد العليا. وفي لحظة رحمة عفا عنها، مما وجّد سمعته كمقاتل شهم.
تاين بو كوالينغي: غزوة أبقار كولي
أشهر فصول حياة كوخولين هو "تاين بو كوالينغي" — الصراع الذي امتحن عزيمته وخَلَّد اسمه. تبدأ الحكاية بملكة كوناخت، ميدب، التي أرادت امتلاك ثور كولي البني الثمين لتضاهي ثروة زوجها أيلل. دفعتها طموحاتها إلى شن غزو شامل على ألستر.
في تلك الأثناء، أصاب محاربي ألستر لعنةٌ غامِضةٌ جَعَلتهم عاجزين عن القتال. لم يكن في مقدور أحد الدفاع عن الإقليم سوى كوخولين، المعصوم من أثر تلك اللعنة. تقبّل التحدي وتعهّد أن يصدّ قوات ميدب وحده عبر سلسلة من المبارزات الفردية، ذلك الشكل التقليدي من القتال الذي يبرز مهارة وشرف المحاربين.
سقط أبطال ميدب واحداً بعد الآخر أمام كوخولين. وهوسه القتالي، المعروف بالـ ريازتراد، كان يحوِّله إلى شاهد مرعب، وقد تشوَّه جسده بغضبٍ خارق. ومع ذلك، ورغم قوته الساحقة، ظلّ يلتزم بموجبات الشرف، وغالباً ما يعفو عن الخصوم الذين قاتلوا شرفاً.
المبارزة مع فيردياد
من بين الذين واجهوا كوخولين لم يكن أحد أقرب إليه من فيردياد، أخوه بالتبني وأقرب أصدقائه. ملتزماً بولائه لميدب، وافق فيردياد على مضض على مواجهة كوخولين. على مدى ثلاثة أيام تدور بينهما معركة بطولية، كل منهما رافضٌ للانسحاب.
في اليوم الثالث، وبعد أن دُفع كوخولين إلى حافة التحمل، أطلق الغاي بولغ وضرب فيردياد ضربة قاتلة. وهو يحتضن صديقه المحتضر أمطرت الدموع وجهه ونال الحزن منه. تظلّ هذه المبارزة من أكثر اللحظات المؤثرة في الأساطير الإيرلندية، إذ تُظهر الثمن المأساوي للوفاء والواجب.
الحب والخيانة
رغم بصمته كبطلٍ قوي، لم تخلو حياة كوخولين من علاقاتٍ عاطفيةٍ حاميةٍ وخيانات مفجعة. كانت زوجته إيمر حبه الأعظم، معروفةً بذكائها ودعمها الثابت. لكن اتحادهما واجه صعوبات نتيجة خيانة كوخولين وجذبه القوي نحو نساء أخريات.
إحدى أقسى فصول حياته كانت علاقتُه بفاند، إلهة البحر. كان حبهما عاطفياً وعميقاً لكنه قصيرُ الأمد. عندما واجهتهما إيمر، أبدت تسامحاً غير متصوَّرٍ حتى للآلهة. ولتجنيب كوخولين عذاب الاختيار بينهما، محا الكهنة الدرويديون ذاكرته عن فاند، فتمكن من العودة إلى إيمر بلا ندم.
لعنة مورّيجان
رافق مورّيجان، إلهة المصير والحرب، كوخولين طوال حياته كظلٍ يتنقّل بين العون والعداء. ظهرت له بأشكالٍ متعددة، كثيراً ما تنبأت بانتصاراته لكنها كانت تلوح أيضاً بمصيره المحتوم. في لقاءٍ تنكّرت فيه على هيئة امرأة عجوز لعنتْه بعدما رفض تقدمها. ورغم عدائها، أكد حضور مورّيجان حتمية مصير كوخولين.
موت كوخولين
نهاية حياة كوخولين كانت درامية بقدر ما كانت أمجاده. تآمر أعداؤه عليه مستخدمين الخداع والغدر. وبعد أن أضعفته سلسلة من الأحداث، شملت خيانة حلفاء موثوقين، خاض كوخولين معركته الأخيرة.
حتى في ساعاته الأخيرة أبى إلا أن يظهر بطولةً لا مثيل لها. إذ جُرح جروحاً مميتة، ربَط نفسه بحجر قائم، مصمِّماً أن يموت واقفاً. وخشية قوته الأسطورية، لم يجرؤ أعداؤه على الاقتراب حتى هبط غراب على كتفه، معلناً وفاته. كان هذا الغراب رمزاً لمورّيجان، ومثل نهاية أعظم أبطال إيرلندا.
الإرث والخلود
قصة كوخولين ليست مجرد ملحمة بطولية، بل انعكاسٌ للحالة البشرية، تستكشف قضايا الشرف والتضحية وثِقَل العظمة. يستمر إرثه حاضراً في الثقافة الإيرلندية، محتفىً به في الأدب والفن والتراث الشعبي. وتظلّ صورة كلب ألستر، واقفاً متحدّياً المستحيل، مصدر إلهام للأجيال.
