كان الرجل وافدًا جديدًا إلى البلاد (تشيتشاكو)، وكان هذا أول شتاء له. كان يوكون على بعد ألف ميل شمالًا، وكان اليوم صافياً وباردًا للغاية، إذ بلغت درجة الحرارة خمسة وسبعين درجة تحت الصفر. كان يسير على طول الدرب في يوم أبرد مما مرّ عليه من قبل. كانت رذاذات لعابه تتشرشر في الهواء وهي تتجمّد في منتصف مسارها. لم تكن هناك شمس ولا حتى أثر لها، مع أنه لم تكن هناك سحابة في السماء. كان يوماً صافياً، لكنه بارد — بارد إلى حد الألم.
لم يكن يملك خيالاً. كان سريع البديهة ويقظًا في أمور الحياة العملية، لكنه لم يكن كذلك في إدراك معانيها. كانت درجة حرارة خمسين درجة تحت الصفر تعني نحو ثمانين درجة من الصقيع. مثل هذه الحقائق كانت تخبره فقط بأنه بارد وغير مريح، وهذا كل شيء. لم تدفعه للتأمل في هشاشته كمخلوق خاضع لقيود درجات الحرارة، ولا في هشاشة الإنسان عمومًا، القادر فقط على العيش ضمن حدود ضيقة من الحر والصقيع. كما أنه لم يفكر في ضرورة البقاء على قيد الحياة، بل في الوصول إلى وجهته فقط — مخيم حيث كان رفاقه في انتظاره.
كان يرتدي معطفًا وقفازات ونعالًا سميكة، لكن البرد كان ينهش وجهه، حيث تجمدت أنفاسه إلى بلورات جليدية على لحيته. كان أنفه مخدرًا وخداه يشعران بالتصلب. لكنه لم يَشُعر بالقلق، هكذا ظن. سيكون في المخيم عند الساعة السادسة، قبل حلول الظلام بفترة طويلة.
بينما كان يسير على طول درب يوكون المتجمد، كان كلب هاسكي يهرول بجانبه. كان الكلب من أهل البلاد، وكان يفهم البرد أفضل من الرجل. لم يرغب أن يترك دفء نار المخيم حيث يمكنه أن يتكور في الثلج محتمياً بفروه الكثيف. لكن الرجل حثه على المتابعة، دون أن يدرك الخطر الذي يواجهانه معًا.
كان الدرب ظاهرًا بشكل باهت تحت الثلج. لم تكن هناك ريح لتحرك السطح، لكن البرد كان ساحقًا، يتسلل عبر طبقات ملابسه حتى النخاع.
الزلّة الأولى
حوالي الظهيرة وصل الرجل إلى نقطة انعطاف في الدرب. هنا كان الثلج رقيقًا، يخفي بركًا خادعة من الماء تحت سطحه. لم تتجمد هذه البرك تمامًا، رغم البرد القارس. كان مدركًا للخطر، لكنه لم يطِيل التفكير فيه. اعتبر البرد عقبة يجب التعامل معها، لا أكثر.
استمر في المشي، ثم اخترق قدمه طبقة رقيقة من الثلج وغاصت في ماء جليدي حتى ركبتيه. شتم بصوت عالٍ، وأدرك مدى خطورة الوضع. كانت الملابس المبللة في مثل هذه الدرجات تهدد الحياة.
تخبط خارج الماء وتحرك بسرعة إلى بقعة جافة. كانت قدماه وساقاه تشعران بالتنميل بالفعل. كان بحاجة إلى إشعال نار فورًا ليجفف ملابسه ويدفئ نفسه قبل أن يستمر في مسيره. توقف عند رقعة خالية تحت بعض أشجار التنوب الشاهقة، حيث كانت الأغصان تحجب الثلج عن الأرض.
إشعال النار
ركع ورتّب بعناية الحطب الصغير، ففرك عود ثقاب على سرواله. تلألأ اللهب، فاحتضنه بعناية حتى نَمَا. شعر الرجل بالارتياح عند رؤية النار الصغيرة. ألقَى عليها المزيد من الأغصان الرفيعة، وسرعان ما اشتعل له لهيب جيد. خلَع نِعالَه المبللة وجواربه ووضعهما فوق اللهب ليجففا. هدأ دفء النار أطرافه المتجمدة، واستعاد ثقته من جديد.
لكن مع نمو النار حدث ما لم يكن في الحسبان. بدأت الأغصان المثقلة بالثلج فوقه تذوب. تسببت حرارة النار في ارتعاش الأغصان، وفجأة، ودون إنذار، انزلقت كتلة من الثلج من الشجرة وغطّت اللهب. انطفأت النار، وبقي الرجل في البرد مرة أخرى.
تأوّه بصوت عالٍ من الإحباط وحاول مسرعًا إعادة إشعال النار. لم يكن يملك رفاهية إضاعة الوقت، فقد كانت قدماه قد بدأت تبردان بشكل خطير مجددًا.
أصبحت يداه مخدرتين الآن، وكان يجد صعوبة في إمساك أعواد الثقاب. تلعثم وأسقط بعضها في الثلج. شتم بغضب واستل عود ثقاب آخر من جيبه. أشعله، لكن يداه ارتجفتا فخفت اللهب قبل أن يتمكن من إشعال الحطب الصغير.
حاول مرة أخرى، ومع اليأس المتزايد. كان جسده يضعف والبرد يسيطر عليه. نجح في إشعال عود ثقاب آخر، لكن أصابعه المخدرة خانته فخمد اللهب.
راقبه الكلب بصمت، وغريزته تحذره من الخطر المتصاعد. كان يعلم أن هذا الرجل في ورطة.
اليأس
اشتد ذعر الرجل. كان عليه أن يوقظ النار؛ حياته كانت تعتمد على ذلك. نزع قفازيه وضرب أعواد ثقاب تلو الأخرى، لكن يداه كانت ترتجفان بشدة. فقدت أصابعه كل إحساس، فسقطت أعواد الثقاب من يديه في الثلج.
بيدين مخدرتين حاول التقاطها، لكن ذلك كان مستحيلًا. كانت أصابعه كالمخالب الخرقاء، ولم يستطع الإمساك بالأعواد الصغيرة. دب الذعر فيه وأدرك خطورة وضعه. لم يعد باستطاعته استخدام يديه لإنقاذ نفسه.
ركع فوق النار المطفأة، ينفخ على الأغصان الصغيرة محاولًا أن يعيد اللهب إلى الحياة. تجمدت أنفاسه في الهواء قبل أن تبلغ الحطب الصغير.
كان البرد لا يرحم. لقد تجاوز مرحلة التنميل، فلم يعد يشعر إلا بكسل خانق يتسلل إلى جسده. عرف ما يعنيه ذلك — كان يحتضر من البرد.
حاول المقاومة. تعثّر ثم نهض وبدأ يركض في الدرب، على أمل الوصول إلى المخيم ورفاقه قبل فوات الأوان. لكن البرد قد أخذ من جسده الكثير، ولم يعد يسيطر على حركاته. بدت ساقاه كأنهما من رصاص، وتعثر في الثلج.
تبعه الكلب، حيث أخبرته غريزته أن الرجل يضعف. أنينًا خافتًا صدر منه، لكنه احتفظ بمسافة. لم تعد لدى الرجل طاقة لندائه.
سقط في الثلج، ضعيفًا جدًا عن الوقوف. تبلدت رؤيته وبطأت أفكاره بينما كان البرد يستولى عليه. كان مدركًا بشكل غامض لوجود الكلب واقفًا بجواره يراقبه.
في محاولة يائسة أخيرة حاول الزحف، لكن حتى ذلك كان فوق طاقته الآن. لقد انتصر البرد. بقى مستلقيًا في الثلج، عالمًا أن نهايته قد حانت.
النهاية
انتظر الكلب بصبر، يراقب الرجل بفضول. لم يفهم الموت، لكنه شعر بأن شيئًا ما ليس على ما يرام. شَمَّ الهواء منتظرًا أمرًا من الرجل، لكن لم يأتِ شيء.
بعد حين، استدار الكلب وهرول في الدرب عائدًا إلى المخيم حيث عرف أن هناك رجالًا آخرين يمكنهم توفير الدفء والطعام. تُرك الرجل خلفه، متجمّدًا في الثلج.
تحرك الكلب بعزم، مدفوعًا بالغريزة. كان يعرف طريق العودة إلى الأمان، وسيبقى حيًا، كما كان يعيش في الشتاءات القاسية التي سبقت هذا الشتاء.
ظل البرد ثابتًا، لا يلين ولا يكترث، بينما كان جسد الرجل مستلقيًا ساكنًا في البرية، تذكرة بقوة الطبيعة وخطر تجاهل تحذيراتها.
