تيكال. يكفي الاسم وحده ليستحضر صورًا من العظمة والغموض. في أعماق غابات غواتيمالا ترتفع هذه المدينة القديمة كالتاج الزمردي في وسط بحرٍ من الخُضرة. معابدها، المغطاة بالضباب والمشحونة بالتاريخ، تشهد بصمت على قرونٍ من الانتصارات والصراعات. لكن بين الحكايات العديدة المنقوشة على الحجر والمهموسة بالرياح، تبرز أسطورةٌ واحدة: قصة الثعبان ذو الريش، كائن إلهي غامض غيّر تيكال إلى الأبد.
هذه هي قصة كوكولكان، الثعبان ذو الريش في تيكال—حكاية عن الآلهة والبشر، عن الإيمان والخيانة، عن مدينةٍ تكاد تقع في الهاوية فاستعيدت روحها.
نبوءة الثعبان ذو الريش
كان رئيس الكهنة تشاك إك شيخًا، ووجهه محفورٌ بتجاعيد السنين والأسرار. بينما كان يركع أمام مذبح النار في أقدس معابد تيكال، مال ذهنه إلى القلق. لأسابيع غاص في مخطوطات المايا، يفك رموز نقوشها المعقّدة على ضوء بخور الكوبال المتلألئ. كانت كل قراءة تشير إلى نتيجة واحدة: مجيء رسولٍ إلهي.
"الثعبان ذو الريش"، تمتم تشاك إك، بالكاد تبلورت الكلمات فوق صوت اللهب. الإله كيتزالكوأتل، المعروف لدى المايا باسم كوكولكان، على وشك زيارة العالم البشري. لكن المخطوطات لم توضّح قصده. هل سيجلب الازدهار، أم سيكون مجيئه نذير هلاك؟
"ادعوا المجلس"، أمر تشاك إك تلاميذه. رغم ارتعاش صوته بسب الشيخوخة، حمل في نبرته إلحاحًا دفعهم إلى الاسراع.
تلك الليلة، بينما القمر البدر يغمر تيكال بضوءٍ فضي، اجتمع شيوخ المدينة في ظل معبد I. بعضهم متحمس، وآخرون خائفون. الجميع كانوا فضوليين.
"كيف سنميّزه؟" سأل أحد الشيوخ.
رفع تشاك إك يده. "تتحدث المخطوطات عن رجلٍ مزينٍ بريش طائر الكيتزال، حاملًا حكمة الآلهة. لكن احذروا—المظاهر قد تخدع."
عمّ الصمت المجلس، وثقلت عليهم نبوءة الثعبان. في الخارج، كانت الأدغال تعج بالحياة، تذكيرًا بأن العالم خارج مدينتهم واسعٌ، غير متوقع، ومملوء قوىً بالكاد يستطيعون فهمها.
غريب بيننا
حدث ذلك مع بزوغ الفجر فوق أهرامات تيكال، عندما لون الضوء الحجارة بأطياف الذهب والقرمزي. فتحت بوّابات المدينة لتكشف عن شخصية لم يرَ مثلها من قبل.
كوكولكان — هذا ما عرف به نفسه — كان طويلًا ووقورًا، حضوره آمِرٌ لكنه هادئ. تلمّ ثيابه بريش الكيتزال المتلألئ، وكان غطاء رأسه على شكل ثعبان، عيونه الزمردية تلمع تحت الشمس. لم يحمل سلاحًا، ومع ذلك سار بثقة رجلٍ لا يحتاج إلى سلاح.
توافد الناس ليشهدوه، وهمسوا بينهم. سجد بعضهم، مقتنعين أنهم في حضرة إله. آخرون، مثل آه-كين، النبيل المعروف بلسانه الحاد وطموحاته الكبيرة، بقوا متشككين.
رفع كوكولكان ذراعيه، فانقشع الصمت بين الجموع. "أنا خادم الآلهة"، قال بصوتٍ عميقٍ رنان. "أحمل حكمتهم لمن يستمع. لكن على تيكال أن تثبت جدارتها."
دعا قادة المدينة إليه إلى الساحة الكبرى، حيث تحدث عن الاختبارات المقبلة. "القوة والحكمة والوحدة"، قال. "هذه فضائلٌ تطلبها الآلهة. وباحتضانها وحدها تستطيع تيكال أن ترتقي إلى العظمة."
بداية الاختبارات
كان الاختبار الأول فحصًا لقوة محاربي تيكال. قضى كوكولكان بأن يحملوا ألواحًا حجرية هائلةً صعودًا على الدرج الوعر لمعبد IV، أعلى مبنى في المدينة. كانت المهمة مرهقةً لدرجة تعثر فيها كثيرون، لكن من ثابر منهم استُقبل بهتافات الأبطال، فجهودهم كانت شهادة على صمود المدينة.
أما الاختبار الثاني، فكان اختبارًا للحكمة وأشد طلبًا. اجتمع الكتبة والكهنة لحل ألغاز منقوشة على ألواح من الأوبسيديان—أسئلة معقّدة حتى أن تشاك إك وجد صعوبة في إدراك مغزاها. أحجيةٌ واحدة خصّتها صعوبةٌ أوقفتهم لعدّة ساعات:
"ما الذي لا بداية له ولا نهاية، ومع ذلك يحيط بكل الأشياء؟"
كانت الكاتبة الشابة إيشيل هي من أجاب أخيرًا. "دورة الزمن"، قالت بصوت مرتعش. ابتسم كوكولكان وأومأ مُعبّرًا عن الموافقة.
أما الاختبار النهائي فكان الأعمق أثرًا. أمر كوكولكان الناس ببناء مذبحٍ ضخمٍ في قلب المدينة. لم يكن مذبحًا عاديًا؛ بل زُيّن بنقوش تعبّر عن أعظم آمالهم وأعمق مخاوفهم، نصبٌ يخلّد روحهم الجماعية. عمِل الناس ليلًا ونهارًا، تآلمت أيديهم وتعبت ظهورهم، لكن قلوبهم كانت مفعمة بالهدف.
بذور الشك
لم ينجرف الجميع وراء الحماسة. راقب آه-كين من على الهامش، وتحول تشككه إلى استياء. "هذا الرجل ليس إلهاً"، تمتم لمريديه. "إنه متلاعب يستغل إيماننا."
مع اقتراب اكتمال المذبح، دبّر آه-كين خطة. تحت جنح الظلام تسلل هو وحلفاؤه إلى معبد كوكولكان على أمل أن يجدوا دليلًا على الخديعة. لكن ما عثروا عليه كان جداريةً لم يروا مثلها من قبل.
صوّرت اللوحة ثعبانًا ضخمًا، حراشفه تتلألأ بأطيافٍ من الأخضر والذهب، وعيونه تشع نورًا غريبًا. بدا الثعبان حيًا، ونظره يخترق أعماق نفوسهم. مرعوبين، هرب المتسلّلون، وتحولت شكوكهم إلى رهبة.
لكن الضرر كان قد وقع. انتشرت همساتٌ عن تحدي آه-كين في أنحاء المدينة، ناشرةً الفتنة في وقت كانت تيكال تتماسك فيه.
غضب الآلهة
بدا أن الآلهة لم ترضَ عما جرى. في تلك الليلة نزلت على تيكال عاصفةٌ لم تشهد لها الذاكرة مثيلاً. اسودّت السماء، وهطلت الأمطار على المدينة بوابلٍ غير متوقف. أضاء البرق المعابد، وزأر الرعد كغضب السماوات.
في وسط الفوضى وقف كوكولكان فوق المذبح المكتمل حديثًا، رافعًا ذراعيه نحو السماء. "لقد شككتم في الآلهة"، هدر، وصوته علا فوق هدير العاصفة. "لكنهم رحماء. جددوا إيمانكم، وسيرحمونكم."
وبينما كان يتكلم، شاهد الناس منظرًا لا يُنسى. من ظلال معبد I خرج ثعبان هائل، حراشفه تلمع في نور البرق. التفت حول المعبد، وكان حضوره مخيفًا ومهيبًا في آنٍ واحد.
خرّ الناس على ركبهم، وغُسلت شكوكهم ومخاوفهم في قلب العاصفة. حتى آه-كين، وقد ذُلّ أمام هذا المشهد، أسلم رأسه وخضع.
مدينة تحوّلت
عندما زالت العاصفة، لم تعد تيكال كما كانت. جدّد الناس عهودهم لتكريم الآلهة، بنوا معابد جديدة وكرّسوا حياتهم لتعاليم كوكولكان. تحوّل النبيل آه-كين، الذي كان سببًا للانقسام، إلى مدافعٍ عن الوحدة؛ كانت تجربته مع الثعبان نقطةً فارقة في حياته.
بعد سنوات اختفى كوكولكان بغموضٍ كما ظهر: قال البعض إنه عاد إلى السماوات بعدما أتم مهمته، وآخرون ظلوا يعتقدون أنه ما زال يجوب الأدغاليراقب تيكال من بعيد.
ازدهرت المدينة، واتحد أهلها بما اجتازوه من اختبارات والدروس التي تعلموها. ورغم مرور القرون، بقيت أسطورة الثعبان ذو الريش حيةً، شاهدةً على قوة الإيمان وروح تيكال الخالدة.
حتى اليوم، يدّعي زوار آثار تيكال أنهم يشعرون بوجوده. يحدِّثون عن همسة خفيفة في الريح، عن حفيف ريشٍ بين الأشجار—تذكير بأن كوكولكان، الثعبان ذو الريش، لم يغب تمامًا.
