أسطورة التنين ذو الاثني عشر رأساً

المقدمة

عاليًا على امتداد سلسلة جبال البلقان، حيث تقطع النتوءات الأفق فتبدو كالأسنان، وتتجمع الغابات كأن لها طقسها الخاص، كانت هناك مملكة تعرف طعم الخبز والحزن معًا. كانت القرى متشبثةً بمصاطب الأنهار كما تتشبث الرخويات بسفينة؛ والحجارة القديمة احتفظت بنقوش تكاد تبلدها ألف شتاء. في ذلك البلد كان الناس يروون الحكايات بعناية ليبقوا الخوف في مكانه — حكايات عن نساء حكيمات، عن أنهار تتذكر الأسماء، عن صفقات مع أرواح تعيش تحت الطحالب والصخور. ومع ذلك، عندما نزلت الريح من أعلى القمم محملة برائحة حديد ودخان، فهم القرويون أن أشياء قديمة قد تحركت.

بدأ الأمر بالقطعان. في ليلة ما وجد الرعاة المراعي مدحوسة كما لو أن عشراً من الوحوش اجتاحت المكان؛ قادت الآثار إلى حواف المنحدرات ثم اختفت. ثم ظهرت على ضفة النهر علامات حروق كما لو أن صاعقة قد ضربت دون سماء. قال الشيوخ إن الجبل ابتلع ظلماً قديماً ولن يرضى. رفض الملك أن يؤمن بالوحوش. عقد مجالس وفرض ضرائب لتمويل القوات. كانت له ابنة حسناء، أميرة ساطعة تضع زهور الوادي في ضفيرتها وتستمع للناس قبل أن تستمع للحاشية. كانت تتجول في الأسواق، شبه خفية، لتعرف من يملك خبزًا ومن ليس له. وحين ظهر التنين — ذو اثني عشر رأسًا، كأنه تاج من العواصف، لكل منها عيون تتذكر مواسم لا يتذكرها البشر — توقف قلب المملكة.

يُقال إن الوحش طالب جزية من ذهب وحبوب، من أغاني وصمت؛ والأمر الأكثر رعبًا أنه طالب بصوت حي ليمنع رؤوسه الكثيرة من تمزيق الوادي. عندما اختُطفت الأميرة من طرف السوق في غسق سحب بلون البرقوق، توقّف نبض المملكة. شحذت الجنود الرماح وأوقد الكهنة البخور للوقاية، لكن عرين التنين كان حيث القانون هش: في حلق الجبل، تحت بحيرة لم يجرؤ أحد أن يرسم خريطتها. هناك كان على فتى يدعى لوكا، الذي كان يومًا فتى محراث ثم تلميذ حدّاد، أن يقاس قدره. لم يولد لنسل حكام، ولم يعرف العطش للمجد. كان يعرف لغة الحديد والأرض؛ كان يعرف أناشيد تهويدة الأم وسكون الحقل بعد المطر. عندما طلبت القرية متطوعين، قال الجيران إن في قلبه ثباتًا، وأن له مكانًا للأشياء الصعبة. اختياره لم يولد من القدر وحده بل من رفض صغير وعنيد أن يدعه الخوف يسكت صوته. فانطلق وهو يحمل عباءة بالية، ومطرقة قضى على صقلها بيديه، وذاكرة ضحكة الأميرة. سيعلّمه طريقه عبر الغابات المظلمة والأنهار الصخرية أكثر من القتال: سيعلّمه كيف يستمع لقصص الجبل القديمة، كيف يساوم حين يذكر المخلوق الظلم، وكيف تطلب الشجاعة أحيانًا ثمنًا مستحيلًا. هذه قصة الطريق، وتشكّل رجل إلى نوع من الأبطال قد يتعرف عليه الوادي حين يحتاجه.

عن الجذور والإشاعات: نشأة المهمة

الوادي الذي احتضن طفولة لوكا لم يتشكل بالطقس والحروب فحسب؛ بل نُحت بالذاكرة. كان كبار السن يروون عن أزمنة نزل فيها الملوك من التلال وتركوا آثارًا في الصخر ما تزال تنبض بالمعنى عند اكتمال القمر. تحدّثوا عن نزاع قبل قرون بين روح الجبل وفرقة من الرجال الذين حفروا بطمع عن الخامات، وجردوا عروق الجبل القديمة. اعتقد بعضهم أن الجبل ابتلع القادة عقابًا؛ وقال آخرون إن الجبل اقتلع قطعة من قلب كل لص وأخفاها حيث لا تصل الجذور. هذه القصص، نصفها تاريخ ونصفها تحذير، نمت كالأشنات على حياة القرويين، وشكلت نظرتهم إلى الدين: فالدين لم يكن للناس فقط بل للأرض والميثاق والرقابة غير المسماة.

عندما ظل التنين يظلل السماء أولًا، تذكر شيوخ قرية لوكا الخلاف القديم. قالوا إن الوحش ربما هو نتيجة تجسدت في شكل هائل. لكن ما فسر شهوة التنين أكثر كان أمر أبسط وأقسى: الجوع الناتج عن قرن من العهود المكسورة. شُبّهت رؤوس التنين الاثنتا عشرة بالطرق العديدة التي أخذ البشر بها دون أن يسألوا — أفواه كثيرة لخطأ واحد. انتشرت الإشاعات أسرع من الرسل الذين يمكن للملك أن يرسلهم. زعم بعضهم أن التنين يملك أصوات من ابتلعهم؛ وأصَّر آخرون أنه يستطيع الكلام وأن كلامه قانون قديم. شعر لوكا، الذي عمل بيديه وراقب تعب جيرانه الصامت، بهذه الشائعات كضغط في صدره. لم يستطع قبول فقدان الأميرة كما لو أنه حدث طبيعي لا مفر منه.

في البدء فعل ما يفعله أي شاب عاقل عند مواجهة شيء مستحيل: استعد. صار تلميذًا عند الحداد، وتعلم الحرارة والصلب حتى أصبحت المطرقة في يده نبضة ثانية. كان حدّاد القرية، ماركو، فيلسوفًا أكثر من كونه حرفيًا، فعلمه ليس فقط كيف يرقق ويطوي المعدن بل كيف يشكل السيف على نَفَس المغنّي — كيف يجب أن يغني السلاح ويتذكر اليد التي صنعته. كان ماركو يتكلم عن التقسية ليس كتقنية بحتة بل كفعل أخلاقي: الفولاذ المتصلَّب بالعناية يحمل ذاكرة ضبط النفس. تعلّم لوكا أن يستمع إلى المعدن عند تبريده، أن يعرف متى يلين ومتى ينكسر، وفي ذلك الاستماع مارس الصبر.

في الأثناء، صارت غيبة الأميرة تجعل الأسواق هادئة والصلوات متكررة، وصارت مراسيم الملك أكثر هشاشة. تحايط بعض التجار بمنحه حقيبة من النقود للقيام بمهمة حمقاء؛ وتلفظ الآخرون عليه بالشتائم لجرأته على الأمل. وبصوت أهدأ، قالت له امرأة عجوز تُدعى دانيكا — كانت يوماً ما معالجة وطُردت لأنها تحدثت مع أرواح الأنهار — ما لم تستطيع الحاشية قوله: أن للتنين نسبًا من المظالم. أعطته تميمة صغيرة من حجر النهر ملفوفة بصوف أسود مضفر وعلمته طرق تسمية الأشياء باللغة القديمة، كلمات كانت الأمهات يغنينها لتحفظ الرضع من الانزلاق إلى الماء المظلم. لم تكن هذه الأسماء أوامر؛ كانت تذكيرًا. أعادت فتح قنوات تواصل أغلقتها الغطرسة البشرية.

في يوم عقدت فيه القرية مجلسًا تحت البلوط القديم ارتفعت الأصوات وانخفضت كاحتكاك الصوان. قال رجال الملك انتظروا واجمعوا قوى أكبر. اقترح قبطان تاجر فدية بالفضة. وعد عصبة من المرتزقة أن تجذب التنين بالقضبان والبراغي. لكن البلوط، شاهد الأجيال، تلقى جواب لوكا بصمت. وقف وعرض نفسه، ليس لأنه يعشق القتال بل لأنه تذكّر فضول الأميرة حين قسمت رغيفًا مع أطفال الفلاحين، وليس لأنه يبتغي مكافأة الملك. من عرفه رأى أن شجاعته ليست شرارة بل احتراق تدريجي. سيحتاج لأكثر من القوة؛ سيحتاج إلى حلفاء يفهمون لغة الجبل ووصفات العهود القديمة. الطريق إلى عرين التنين لم يتطلب مجرد سيف، بل حكايات يمكن استعمالها كمفاتيح.

هكذا بدأت رحلة لوكا بشكل متواضع: حقيبة صغيرة، مطرقة، تميمة حجر النهر، وأغانٍ همست بها دانيكا. دار يطلب الناس الذين يغاضي عنهم البلاط: حارس غابات شارد يقرأ آثار الطيور، نجار سبق أن حفر أساسات في كهوف، حرفي يصنع مرايا للأغنياء ليتفحصوا وجوههم. تعلّم من مغنٍ رحّال أغنية قديمة تسمي طرق الجبل القديمة. كان لدى المغنّي نصف صفحة خريطة مكتوبة على الرق، باهتة ومعلّبة بالشمع. انطلقوا عند الغسق، فظلال الجبل قد تحميهم، وسلكوا المسارات الضيقة.

على الطريق رأى لوكا آثار حكم التنين: حقول محترقة بنقوش دائرية غريبة كما لو أن اثنتي عشرة لسانًا لامستها؛ آبار ارتفعت مياهها بطعم مملّح يذكّر بالحديد؛ وبدأ الأطفال يحلمون برؤوس في الدخان. لكن لوكا رأى أيضًا مقاومات صغيرة: مزارعون يدفنون أرغفة خبز للثعالب كي لا تجوع الفئران؛ امرأة تلقي بذورًا على الطريق للطيور؛ رجال ونساء يزينون النوافذ بأكاليل منسوجة ليذكروا أنفسهم أنهم ما زالوا يصنعون الجمال. تحولت هذه الأفعال العادية إلى خطوط إمداد خفية للأمل عند لوكا.

كلما اقتربوا من حلق الجبل، ازدادت رائحة الهواء بنَفَح النيران القديمة وخفتت مصابيحهم. صارت الليالي تدريبات على الاستماع. أحيانًا كان الحشد يسمع صوتًا من الظلمة يرد عليهم — سخرية، ذكرى، تهويدة ضائعة — وتعلم لوكا أن يرد بالأسماء التي علمته إياها دانيكا. لم تكن هذه الأسماء تطرد الأصوات، لكنها جعلت الإصغاء تبادلًا بدلًا من فرض سيطرة. في تلك التبادلات الصغيرة — اسم مجيب، عملة معطاة لروح النهر، إهانة مكبوتة تتحول إلى رغيف مشترك — مارس لوكا أهم مهارة: التواضع أمام قوى أقدم من الملوك. كان ذلك التواضع درعًا من نوع خاص سيرتديه في بلاط التنين.

عندما وصلوا إلى البحيرة التي تخفي فم الجبل بدا أن الأرض نفسها تستجمع أنفاسها. كان سطح الماء كالزجاج الأسود؛ اهتزت القصب رغم غياب الريح. في ضوء النجوم رأى لوكا انعكاسات ليست له، وأدرك أن وجود التنين يغيّر ليس الأجساد فحسب بل الإدراك أيضًا. دندن المغني الأغنية بالمقلوب، مُستدعيًا خطوات المسافرين القدامى، وأخرج الحرفي مرآة صغيرة ما إن وضعوها بزاوية مناسبة حتى مكّنتهم من رؤية خلف المنعطف. حملت رائحة الجبل مزيجًا قديمًا من الملح وغبار المناجم المغلقة منذ زمن. شعر لوكا بشيء يشبه نبضة جواب تحت نعليه، ولمرة أولى استوعب حجم التحدي: اثنا عشر رأسًا تعني اثنتي عشرة إرادة، اثنتي عشرة ذاكرة، كثيرًا من المظالم، وجوعًا مركبًا لا يُحل بضربة واحدة. استند إلى شعار الحدّاد: قوِّ الفولاذ مبكرًا، واضرب بالمطرقة بثبات. تذكر الأميرة التي لم يعرفها جيدًا ومع ذلك أحس بألفة ضحكتها، وتذكّر القرويين الذين وصفوه بأنه راسخ، وتذكّر درس ماركو: السيف الذي يتذكر ضبط النفس سيقطع فقط ما يجب أن يسقط. رفع تميمة حجر النهر إلى صدره وخطا إلى ظلمة توعدت بالدمار وفيها كشف.

اثنا عشر صوتًا: محكمة الجبل والمحاسبة النهائية

عندما عثر لوكا ورفاقه على فم التنين، لم يكن مغارة واحدة بل صالة من الأقواس المحفورة في الصخر القديم، تحيطها عروق بلورية تشبه البرق المتجمّد. كان الهواء دافئًا ومعدنيًا، ومن الشقوق خرج رنين منخفض وإيقاعي، كأن طبولًا عديدة تعزف تحت الجبل. في البداية رأوا أشكالًا فقط: التواءات بلون قيعان الأنهار، نظرات تشبه الفحم المصقول، لطخة من القشور تلتقط نور الفانوس. ثم دارت الرؤوس، ليس بتزامن بل في رقصة بطيئة وحذرة، كأنها تقرر أي منها سيتذوق الفضول أولًا. كان لكل رأس نمط ندوب مختلف وعين غريبة — بعضها معتم بقدم السنين، وبعضها حاد وأخضر كأوراق شجرٍ باكرة.

سألهم صوت كنسيم يعبر الحجر عن أسمائهم بلغة لها إيقاع القانون القديم. أجاب لوكا بالأسماء التي علمته إياها دانيكا، فاتّسعت قواعد الجبل القديمة بينهما كالزربية. لم تزأر أفواه التنين الكثيرة فورًا؛ بدا أنها مهتمة أكثر بجرد وجوه الناس والهدايا الصغيرة التي أحضروها. كان بين العطايا بعض الذهب، لكن الأغلب كان أشياء بسيطة: لعبة خشبية لطفل، شريط مطرّز، جرس فضي. شمت الرأس الأصغر رغيفًا ملفوفًا بأوراق العنب وانكمش عنه؛ وانحنى رأس آخر نحو مرآة الحرفي ليفحص انعكاسات نفسه المتعددة.

عندما قُدِّمت الأميرة لم تصرخ. مشيت بدل ذلك بفضول ثابت، تتحرك عيناها كمن يستمع. من توقعوا عرضًا فرأوا أمرًا أغرب: بدأت الأميرة والوحش يتبادلان محادثة بالنظرات. شعر لوكا بالخوف ومعه أمل غريب ومتمسك. كان بلاط التنين أقل مشهدًا من الجوع الوحشي وأكثر مجلسًا معقّدًا من المظالم. تكلم أحد الرؤوس — أقدمها وأكبرها، متوشحًا بشبكة من الندوب البيضاء — بصوت يشبه الحجارة النهرية الخام. روى قصة منقّبين حفرو إلى قلب الجبل وأخذوا من عروق تنتمي لذاكرة الأرض البطيئة؛ سرد أغاني سرقها الريح وميثاقًا خُلف عندما وعد الرجال الجزية ولم يؤدوها.

شاركت الرؤوس الأصغر بشكاوى بدت كقصاصات من حياة بشرية: فتاة سُلبت منها تهويدتها من قِبل سيد، بئر سمّمته الجشع، ووعود لم تُوفَ تكاثرت كالعفن. استمعت الأميرة وبدأت تسمّي ما يمكن تسميته — أسماء القرى، تواريخ الشّتاء القاس، أسماء من أخذوا ولم يُرَدّ لهم ما كان للأرض. في هذا التبادل بدأ شيء هش وإنساني يُعاد بناؤه: دفتر حساب للمظالم وقائمة أولية للعلاجات. أدرك لوكا حينها أن النصر قد لا يكون نهاية واحدة ونظيفة؛ بل تفاوضًا متعثّرًا مع تاريخٍ وحشي.

كانت المعركة الأولى نارًا وإلهاءً. بينما كان الجنود والمرتزقة في الخارج يقذفون الرماح والسهام — التي ضاعت أغلبها أمام قشور تتلألأ كالدروع المتراكبة — سعى لوكا ورفاقه إلى فتح حوار. غنّى المغنّي لحنًا عرفته رؤوس التنين وتذكرته؛ فلطّف بعض حركاته، مما أجبر أعناقًا على الميل وقشورًا على الارتخاء. عكست مرآة الحرفي ضوء الشمس إلى رأسٍ مثقل بقرون من الغبار فتردّد كما لو تعرفه. لكن لم تستقبل كل الرؤوس الكلام بحفاوة؛ بَرزت أنياب بعضِها وزفروا أنفاسًا كبريّات الكبريت التي أحرقت الشعر وحرقت العباءات. تحولت المواجهة إلى مسابقة طقسية: القوة مقابل الحيلة، القانون القديم مقابل ندم البشر.

بينما التفّ الدخان، استخدم لوكا المطرقة بدل النصل. ضرب الأرض بدل الوحش، فأوجد إيقاعًا قرعيًا قاوَم رنين التنين العميق. بدا أن دقات المطرقة، مضبوطة بتقسية ماركو، تنادي شيئًا آخر في الجبل: ذاكرة راسخة للرجال العاديين الذين كانوا يحترمون العهود. في لحظة ضيقة تقدمت الأميرة بين لوكا ورأسٍ يهدر، فرأى لوكا في عينيها قرارًا: أن تتفاوض مع مخلوقٍ مولود من المظالم بدلًا من قتله. كررت اسم بلدة العهد القديمة — اسم مستوطنة كانت مركزًا للتجارة النزيهة بين المنقبين وأرواح الجبل — وعرضت ليس ذهبًا فحسب بل إعادة بناء تلك البلدة، إعادة حقوق الورثة، وزرع أشجار حيث جردت الجذور. كان هذا المفتاح الذي انتظره التنين: ليس مجرد جزية بل تعويض حقيقي وصوت يحتفظ بالسجل.

طالب التنين بشروط تختبر أكثر من الثروة. طلب يَمِينًا يُقسَم في ماء النهر، وإعادة توزيع المحاصيل لمن يعتنون بالأرض، ووعدًا بأن تُستغل مناجم الجبل فقط بموافقة المجتمع ودفع الحقوق الواجبة للأرض. بدا لهذه الشروط غير محتملة لدى كثيرين في بلاط الملك؛ كانوا سيفقدون الربح والنفوذ. لكن الأميرة ولوكا، اللذان رأيا انخفاض الأسواق وكرم الناس الصامت، جادلا أن سلامًا طويلًا يستحق سيادةً أصغر.

المفاوضات نادرًا ما تكون مرتبة. تخفّت الخيانة وراء النوايا الحسنة. حاول أحد الحاشية، الذي ربِح من المناجم التي اتهمها التنين، أن يقبض على رأس التنين بسكين مسموم. فشل، وفي الزحمة أصيب ما يحبّه التنين — رأس صغير سالت شفته السفلى كما نزف طفل. اشتد غرور الوحش، وفجّر عاصفة مروعة؛ دار التنين وبدأ الدخان والنار ينهشان الجبل. في الفوضى تصرّف لوكا بنوع الشجاعة الذي يثق به حقًا: شجاعة الإصلاح. قفز ليس ليقتل بل ليصلح.

باستخدام نصل لم يستعمله للقتل بل لفتح وريد بلوري، استعمل الفضة المصهورة وتميمة حجر النهر لصنع جسر صغير بين قشرة الرأس المجروحة وقطعة حديدية مانعة. سواء بسحر أم بذاكرة عضلات يد حدّاد، هدأت تلك الرأس المصابة بفعل العناية. نفّذ لوكا بيديه المشققتين والصدق طقسَ رعاية: سكَب ماءً مقدسًا اشتراه من الكاهن وخلطه بأغانٍ دانيكا. نظر إليه الرأس الأكبر كما ينظر المرء إلى من تعلم لغة واختارها. ورأت بقية الرؤوس فعل الرعاية بدل القتل الهمجي فانسحبت إلى حذر منخفض مشوب بالريبة.

أتى ما بعد ذلك بهدنة نسجت من أشياء هشة. وافقت الأميرة أن تكون وسيطة بين الجبل والبشر؛ وقع الملك ميثاقًا يقيد بعض المناجم ويحوّل الجزايا إلى رعاية جماعية بدل خزائن الملك. تشتّت المرتزقة، وتشكل مجلس من القرويين والشفائين والحدّاد ماركو لمراقبة تنفيذ الشروط الجديدة. أمّا التنين فانسحب جزئيًا إلى داخل الجبل، ليبقى يراقب ويعود فقط إذا دُعي أو إذا تسلّلت المظالم القديمة كالعفن. زرعت الأميرة والناس حلقة من الشتلات حول البحيرة التي يشرب منها الجبل.

عرضوا على لوكا أرضًا ولقبًا؛ رفض ذهب التاج، طالبًا بدلًا منه قطعة أرض صغيرة قرب النهر، ورشة حدادة ليعلّم الآخرين فيها، ووعدًا بأن يكون للفقراء الأولوية عند فتح مناجم الجبل من جديد. لم يرغب أن تُرفع له الأعلام؛ أراد حياة تكون فيها يديه قادرتين على إصلاح ما كسره الخوف. في بعض الليالي ظل التنين يلقي بظله على الوادي، وكان الأطفال يسألون إن كانت الوحوش تنام حقًا. قال الشيوخ: الوحوش تنام حتى تتذكر المظلومية. كان عمل لوكا أن يضمن أن يتذكّر الوادي أفضل مما يتذكره التنين: تحويل الحكايات القديمة عن الأخذ إلى مجالس للحفظ، ربط القانون والأرض بالذاكرة الشفهية والميثاق المكتوب، وتعليم الحدّادين القادمين أن التقسية فعل أخلاقي. تعلّمت المملكة درسًا قاسيًا عن السلطة: إن السيادة المبنية على الأخذ ستطالب دومًا بالتعويض إن رغبت أن تدوم. في السكون الذي تلا ذلك، كانت الأميرة ولوكا أحيانًا يمشيان على شاطئ البحيرة ويستمعان لأنفاس الجبل البعيدة المنخفضة. لم يتحدثا عن النصر بصخب، بل عن عمل سيصمد أطول من الطقوس — ممارسة الإصغاء والإصلاح والعطاء عندما يطلب الجبل. صارت هذه الممارسة، أكثر من أي سيف أو معركة، الحماية الحقيقية من عودة جوع الرؤوس الاثني عشر.

الخاتمة

في السنوات التي تلت محكمة التنين تغيّرت المملكة ببطء كما يشكل الماء الحجر. صارت الميثاقات الموقّعة بجانب البحيرة وثائق حية؛ وعَلّم الشيوخ الصغار أن الوعود ليست حُليًا بل أدوات تُستعمل يوميًا. أصبحت ورشة لوكا مكانًا للتعليم، حيث تعلّم المطرقة والسندان الجيل الصغير ليس فقط كيف يشكل الفولاذ بل كيف يشكل الالتزامات. وفي كل أسواقه، أوفت الأميرة بوعدها أن تمشي بين الباعة وتتكلم حين ينسى صُناع القوانين احتياجات الوادي البسيطة والثابتة.

عندما يلمح الأطفال التنين على الحافات العالية لم يعد وحشًا فحسب بل تذكيرًا: دفترٌ حي لا ينسى إن نَسِى الناس أولًا. بدأ الناس يروون مجموعة أخرى من القصص بجانب الموقد — قصص تسمّي المظالم وتشرح أيضًا كيف تُصلح. علّموا أن الشجاعة تزدهر ليس فقط في أعمال السلاح الفردية بل في الأفعال المملّة للّصق والإصلاح: رعاية رأسٍ جريح، إصلاح جدول مكسور، الاستماع لشكوى جار ومعاملتها وكأنها مهمة. تغيّر نغْم الوادي طفيفًا؛ وأصبحت الأهازيج تذكر أسماء المنقّبين والشفائين ونساء السوق والنجارين، واحتفلت بالعمل المشترك بقدر ما تحتفل بشجاعة أي بطل. وجد التجار الذين كانوا يتآمرون وحدهم فوائد المحاسبة المفتوحة. الجبل من جهته لم يخفّف كبرياءه، لكنه بدأ يسمح بعبور من لا يأخذون أكثر مما اتُّفق عليه.

بعد سنوات، عندما يجرّ الأطفال كمّ لوكا ويطلبون النسخة المبسطة — هل هزمته؟ — كان يبتسم ويجيب أن الوحوش نادرًا ما تُهزم بقوة واحدة. تُحَوَّل، تُقيَّد، وتُدرج في اتفاقات. علمهم كيف يعالجون المعدن ويُقوّون العهود على حدّ سواء، لأن كليهما ينحني ويصمد إذا ما عُولج بعناية. الدرس الذي تبنّته المملكة لم يكن فقط أن حدّادًا شجاعًا وأميرة حكيمة أنقذاها، بل أن الشجاعة الجماعية — العمل الهادئ للتذكّر والإصلاح والعطاء — هي ما ختم سلامهم. وعندما جاءت العواصف، كما تفعل دائمًا، واجهها الوادي وهو أجهز أفضل: بأيمان يمكن العدّ، وبأيادٍ مستعدة لردّ العالم إلى حاله حينما يَبْلو.