يُعد مهرجان فطائر القمر، المعروف أيضاً بمهرجان منتصف الخريف، واحداً من أكثر الاحتفالات تقديراً ومحبة في الصين. إنه وقت للتلاقي العائلي، ولتقديس القمر، ولمشاركة فطائر القمر التي تُعد حلويات رمزية تمثل الوئام والوحدة. يغمر هذا المهرجان تقاليد عميقة، مع قصص وأساطير تنتقل عبر الأجيال، وأشهرها حكاية هو يي وتشانغ إي، قصة حب وتضحية وخلود. في قلب الصين القديمة، حيث تَتشابك القوى الغامضة مع مصائر البشر، تبدأ هذه الأسطورة.
الأرض تحت عشرة شموس
منذ زمن بعيد، كانت الأرض مكانًا منسجمًا ومزدهرًا، أرضًا تزدهر فيها الطبيعة تحت حكم إمبراطور اليشم الرحيم. كانت السماوات هادئة، وكان البشر يعيشون حياةً سلمية تتغذّى على ضوء الشمس. ولكن لم تكن شمس واحدة تحكم السماء، بل عشرة شموس، كانت تظهر بالتناوب كل يوم لتمنح الدفء والرزق. لم تكن هذه الشموس مجرد أجسام سماوية، بل كانوا إخوة—عشرة كائنات إلهية تتناوب على ركوب عرباتهم النارية عبر السماوات.
لقرونٍ طويلة استمر هذا التناوب دون خلل. ازدهر العالم تحت وهج الشموس الثابت المعطي للحياة. لكن في يومٍ مشؤوم، شعر الإخوة العشرة بالملل من روتينهم. اشتهوا المغامرة والهروب من واجبهم الرتيب. متجاهلين تحذيرات والدهم، إمبراطور اليشم، قرروا أن يطلعوا إلى السماء معًا دفعة واحدة. حرارتهم وسطوعهم مجتمعين أحرقا الأرض. جفت الأنهار، وذبُلت المحاصيل، وعانى الناس من حرارة لا تُطاق. لو لم يُتخذ شيءٌ عاجلًا، لكان العالم سيهلك.
وسط الفوضى، ظهر بطل. اسمه هو يي، رامٍ ماهر مشهور بمهارته وشجاعته. لم يكن هو يي إنسانًا عاديًا؛ بل كان نصف إله، مولودًا من أصالٍ بشرية وإلهية، وكانت قوته لا تُضاهى. عندما رأى الدمار الذي سببته الشموس العشرة، أدرك أنه لا بد له من التصرف. مسلحًا بقوسه الأحمر السحري وسهامه البيضاء التي أهدته إياها الملكة الأم في الغرب، صعد إلى أعلى قمة في الصين، جبل كونلون، وصوب سهامه نحو السماء المشتعلة.
أطلق هو يي سهامًا تلو الأخرى فأسقط تسعًا من الشموس. أصاب كل سهم هدفه، فسقطت الشموس من السماء وانطفأت ألسنتها المبهرة أثناء السقوط. أما الشمس الأخيرة فاختبأت خائفةً وراء الجبال. بدأت الأرض تبرد، وعادت الحياة تدريجيًا إلى طبيعتها. جرت الأنهار مجددًا، ونمت المحاصيل مرة أخرى، وابتهج الناس. حظي هو يي بالتبجيل كبطل لإنقاذه العالم من هلاك محقق. ومع ذلك، كان لفعله عواقب أبعد مما توقعه الجميع.
هدية الخلود
غضب إمبراطور اليشم من هو يي. فبرغم أن أبنائه هم من سببوا الدمار، فهم لا يزالون أولاده، واعتُبر فعل هو يي بقتل تسعة منهم إهانةً للسماء. كعقابٍ، جرد إمبراطور اليشم هو يي من ألوهيته ونفا هو وزوجته تشانغ إي إلى العالم الفاني. ومع تدهور مكانته، واصل هو يي خدمة الناس كبطلٍ بين البشر، مستخدمًا مهارته كرامٍ لحمايتهم من الوحوش الخطرة والكوارث الطبيعية. كان حبه لتشانغ إي عميقًا، وعاشا معًا بسعادةٍ رغم المحن التي واجهاها.
في يومٍ ما، بينما كان هو يي يسافر عبر أراضٍ بعيدة، صادف مرةً أخرى الملكة الأم في الغرب. تأثرت بشجاعته وحبه لزوجته، فأعطته إكسيرًا نادرًا وقويًا، جرعة قادرة على منح الخلود. لكن الإكسير كان مشروطًا بشرطٍ ثقيل: كان قويًا لدرجة أن نصف الجرعة فقط يكفي للصعود إلى السماوات ونيل الخلود. وإذا شربه هو وتشانغ إي معًا، فسيكون عليهما تقاسم الجرعة.
أخذ هو يي الإكسير إلى منزله بنية مشاركته مع حبيبته تشانغ إي ليعايشا معًا إلى الأبد. ومع ذلك، وعلى الرغم من حبه العميق لها، تردد هو يي. لم يرغب في مغادرة العالم الفاني الذي صنع فيه فرقًا كبيرًا. فقرر أن يخفي الإكسير في مكان سري داخل بيته إلى أن يتفقا معًا على الوقت المناسب لتناوله.
خيانة بنغ منغ
من بين تلاميذ هو يي الكثيرون، كان هناك رجل يُدعى بنغ منغ، شخص ماكر وجشع يطمع في السلطة. عندما علم بنغ منغ بأمر إكسير الخلود، بدأ يدبر المكائد. كان يعلم أنه إن تمكن من الحصول على الجرعة فسيشربها ويصعد إلى السماوات بنفسه، تاركًا وراءه معاناة الفانية ومحدودية العالم البشري.
في يومٍ بينما كان هو يي في رحلة صيد، رأى بنغ منغ فرصته. اقتحم منزل هو يي وواجه تشانغ إي، مطالبًا إياها تسليم الإكسير. ولأنها علمت أنها لا تستطيع هزيمته في قتال، وبما أنها لم تكن لتمنح هذا الإكسير لرجلٍ شريرٍ كهذا، اتخذت تشانغ إي قرارًا يائسًا. ابتلعت الإكسير بأكمله. وعلى الفور شعرت أن جسدها خفَّ من وزنه، وبدأت ترتفع في السماء، تصعد نحو السماوات.
لم يكن أمام بنغ منغ سوى أن يراقب بدهشة بينما ارتفعت تشانغ إي أعلى فأعلى حتى اختفت في سماء الليل. حبها لهو يي ربط روحها بالقمر، أقرب جرم سماوي إلى الأرض، وهناك لَجَأت. وكإلهةٍ للقمر، راقبت العالم من بعيد، وقلبها يحن إلى زوجها.
اللقاء على القمر
عندما عاد هو يي إلى منزله وعلم بما جرى، كان منكسراً قلبه. نظر إلى القمر كل ليلة على أمل أن يلمح حبيبته تشانغ إي. كان يدعو القمر ويضع أمامه أطعمتها المفضلة—كعكاتٍ حلوة وفواكه—كعربون حبٍ وتفانٍ. بدأ الناس الذين أعجبوا بهو يي وتشانغ إي يحذون حذوه، مقدمين فطائر القمر ومضيئين الفوانيس تكريمًا لهما أثناء اكتمال القمر.
كل عام، خلال مهرجان منتصف الخريف، تتجمع العائلات للاحتفال بلقاء الأحبة، تمامًا كما كان يأمل هو يي أن يجتمع مع تشانغ إي. ويُقال أنه في تلك الليلة يضيء القمر بأبهى حلله، وإذا دققت النظر قد ترى شكل امرأة—تشانغ إي الخالدة—ترقص برشاقة على سطحه. تذكرنا قصتها بالرابط الأبدي بين المحبين، حتى لو فرّقتهم المسافات.
القمر الكامل المستدير يرمز إلى الكمال والوحدة. بالنسبة لشعب الصين، يعد مهرجان منتصف الخريف وقتًا للتلاقي الأسري، للاستمتاع بفطائر القمر، وللتأمل في أسطورة هو يي وتشانغ إي، اللذين تجاوز حبهما حتى حدود الحياة والموت.
الأرنب على القمر
مع انتشار أسطورة هو يي وتشانغ إي في أنحاء الصين، بدأت تتوالى حكايات أخرى عن الكائنات التي قد تسكن القمر إلى جانب الإلهة. ومن أقدم وأشهر هذه الحكايات قصة الأرنب اليشم.
وفقًا للأسطورة، كان الأرنب اليشم مخلوقًا كريمًا لا أنانيًا عاش في غابات الصين القديمة. في يومٍ ما تنكر إمبراطور السماء في صورة متسول عجوز ونزل إلى الأرض ليختبر لطف الحيوانات. طلب من كلٍّ منهم طعامًا. جاء القرد بفواكه، وعرض الثعلب السمك، والأرنب، الذي لم يكن يملك شيئًا ليقدمه، رمى بنفسه في النار حتى يتمكن المتسول من أكل لحمه.
تأثر إمبراطور السماء بتضحية الأرنب، فكشف عن نفسه وأنقذ الأرنب من النيران. كافأه بأن أرسله ليعيش على القمر مع تشانغ إي، حيث صار رفيقها. ويقال إن الأرنب اليشم يُرى وهو يدقّ الأعشاب في الهاون والمدقّة، محضّرًا إكسير الخلود الذي قد تشاركه تشانغ إي مع هو يي إذا اجتمعا يومًا.
حتى اليوم، إذا نظرت بانتباه إلى القمر المكتمل، قد ترى هيئة أرنب يجتهد بجانب الإلهة تشانغ إي، رمزًا للإيثار والوفاء والحب.
فوانيس الأمل
مع مرور القرون، واصل مهرجان منتصف الخريف تطوره. بدأ الناس بإشعال الفوانيس وإطلاقها على الأنهار، دلالةً على أمانيهم وأحلامهم التي تُحمل إلى السماوات. هذه الفوانيس كانت تمثل الرغبة في الحظ السعيد والسعادة واجتماع أفراد العائلة الذين فرّقتهم المسافات أو الزمن.
مع كل عامٍ أصبح المهرجان أكثر بهجة وحيوية، تصدح الشوارع بالمواكب والرقصات والموسيقى. أصبحت فطائر القمر، التي كانت في الأصل قُدمًا متواضعًا لتشانغ إي، أكثر تفصيلًا وغنى، محشوةً بمعجون بذور اللوتس الحلو وصفار البيض المملح ومكوّناتٍ غنيةٍ أخرى، لتُرمز إلى كمال الوحدة الأسرية. لم يكن المهرجان مجرد احتفال بأسطورةٍ قديمة فحسب، بل وقت يجتمع فيه الناس لتقدير جمال القمر وتكريم قيم الأسرة والوفاء والحب.
ورغم أن قصة هو يي وتشانغ إي تظل في صميم المهرجان، فإن مهرجان منتصف الخريف في جوهره احتفال بالصلة الإنسانية—وقت للتفكر في الروابط التي تجمعنا، والتضحيات التي نقدمها لبعضنا، والأمل بأن الحب يدوم حتى في البُعد.
احتفال حديث
اليوم يُحتفل بمهرجان فطائر القمر، أو مهرجان منتصف الخريف، ليس في الصين فحسب، بل في كثير من دول شرق آسيا مثل فيتنام وسنغافورة وماليزيا. تتجمع العائلات لتناول فطائر القمر، وتشغيل الفوانيس، والاستمتاع بجمال القمر المكتمل. أصبح المهرجان خليطًا بين التقاليد القديمة والاحتفالات المعاصرة، وقتًا للتأمل والامتنان والتواصل.
في المدن الصاخبة والقرى الهادئة على حد سواء، يتوقف الناس لرفع أبصارهم إلى القمر وهم يستذكرون أسطورة هو يي وتشانغ إي. القمر، الثابت في سماء الليل، يذكرنا أننا حتى في الفراق جميعًا متصلون تحت نوره.
تستمر أسطورة مهرجان فطائر القمر في إلهام الناس، مذكِّرةً بأن الحب والتضحية واللقاء مجددًا مواضيعٌ إنسانية عالمية تتجاوز الزمان والثقافة. وعندما نجتمع مع أحبتنا تحت القمر المكتمل، نُحيي قصص من سبقونا، وننقل تراث مهرجان منتصف الخريف الغني إلى الأجيال القادمة.
