تظل قصة حقبة الممالك الثلاث في الصين — المليئة بالمعارك الأسطورية والبراعة التكتيكية وولاء أمراء الحرب والجنرالات — واحدة من أكثر الحكايات الملحمية في سجلات التاريخ. دارت أحداث هذه الفترة العاصفة خلال أواخر عهد سلالة هان الشرقية، وشهدت قيام ثلاث دول قوية — وي، شو، وو — يقود كلٍ منها حاكم ذو شخصية كاريزمية يتنافسون على السيطرة على الأراضي الصينية الشاسعة. كانت حقبة اتسمت بالمناورات الماكرة والمحاربين الشجعان والتحالفات التي تُصاغ وتتفكك في أتون الحرب.
مع تهاوي سلالة هان عمّت الفوضى البلاد، وبرزت شخصيات قوية استغلت الفرصة لاغتنام السلطة، فاتحةً بذلك عصر الممالك الثلاث. من ولاء الجنرالات المشهورين إلى قسوة الحكام الطامحين، تجسد هذه القصة جوهر حقبة كان الشرف والخيانة والشجاعة فيها يقرران مصائر الرجال والإمبراطوريات على حدٍّ سواء.
سقوط سلالة هان
حكمت سلالة هان الشرقية الصين لقرون، لكن بحلول أواخر القرن الثاني الميلادي أضعف الفساد والصراعات الداخلية أسس الحكم. تأثر الإمبراطور لينغ كثيرًا بخصيان البلاط الذين أساءوا استخدام سلطتهم، ففرضوا ضرائب مرهقة على الناس وغرّقوا الإمبراطورية في الفقر واليأس. انتشر السخط كالنار في الهشيم في أنحاء البلاد، واندلعت ثورات على شكل ثورة العمائم الصفراء.
قاد تمرد العمائم الصفراء تشانغ جوي، وكان المتمرّدون قوةً من الفلاحين والمزارعين الذين تجمعوا تحت شعار «تفويض السماء» مطالبين بعهدٍ جديد. كشف هذا التمرّد عن عجز الجيش الهاني، فتم تكليف أمراء حرب أقوياء بقمع الانتفاضة، وكان ذلك بداية صراعٍ طويل على السلطة.
من بين هؤلاء الأمراء برز رجال طموحون لم تقتصر طموحاتهم على قمع التمرّد فقط. ظهر رجال مثل تساو تساو، الاستراتيجي العبقري والقائد الطموح؛ ليو باي، الرجل النبيل القلب والنسب؛ وسون جيان، المحارب الناري القادم من الجنوب، كشخصياتٍ محورية قادرة على تشكيل مستقبل الصين. ومع سحق التمرّد تضخمت جيوشهم وبدأوا يطالبون بأجزاء من الإمبراطورية الممزقة.
صعود تساو تساو
تساو تساو، أمير حرب ذكي ذو براعة تكتيكية لامثيل لها، رسّخ سريعًا مكانته كقوةٍ لا يستهان بها في الشمال. جذبت كاريزمته آلاف الرجال إلى صفوفه، من جنرالات ومستشارين مشهورين. كان طموح تساو تساو واضحًا — كان ينوي توحيد الصين تحت حكمه. ومع ذلك لم يخلُ صعوده من معارضة؛ فقد رآه أمراء الحرب المنافسون تهديدًا، لا سيما يوان شاو، الأرستقراطي صاحب الجيش القوي الذي سعى لإسقاطه.
كانت معركة قواندو لحظةً فارقة بالنسبة لتساو تساو. رغم تفوق خصمه العددي، استعمل تكتيكات ذكية لتفكيك قوات يوان شاو، مما رسّخ سيطرته على شمال الصين. لم تكن قوته في فطنته الاستراتيجية فحسب، بل أيضًا في قدرته على استثارة الولاء بين من حوله. ساعده في ذلك جنرالات موثوقون، من بينهم شو تشو الشرس وقو جيا الحكيم، لتجاوز عقباتٍ بدت مستحيلة. ومع كل نصر اقترب حلم تساو تساو في توحيد الصين خطوة أخرى.
أخوة بستان الخوخ
بينما كان تساو تساو يجمع سلطته في الشمال، ظهر قائد مختلف في الأراضي الغربية. ليو باي، رجل من أصول متواضعة لكنه مشحون بولاءٍ عميق لسلالة هان، اعتبره كثيرون ابن السماء الحقيقي. عقد أخوّةً مع محاربين أسطوريين هما قوان يو وتشانغ فاي، متعاهدين على استعادة السلام للدولة والدفاع عن نسب هان.
كسب ليو باي احترام ودعم العامة بفضل ولائه للشعب، الذين رأوه شعاع أمل وسط الفوضى. أصبح قوان يو، المعروف بشجاعته وولائه الثابت، وتشانغ فاي، المشهور بقوته وبسالته، أقرب مرافقي ليو باي. سعى الثلاثة، المرتبطون بقسم مقدس، إلى إقامة مملكة عادلة رغم ما واجهوه من عقباتٍ لا حصر لها.
اختُبرت أخوّتهم أثناء تنقلهم في الأراضي الممزقة بالحرب، يقاتلون للدفاع عن الناس ومقاومة تصاعد نفوذ تساو تساو. ورغم صغر حجم قوات ليو باي، جذبت صدقه وطبيعته العادلة محاربين ومستشارين بارعين شاركوه رؤيته.
سون جيان ونهوض وو
في الجنوب، ارتقى محارب شرس يُدعى سون جيان إلى السلطة. عُرف بلقب «نمر جيانغدونغ»، وكان لا يهاب المعركة وماهرًا في السيف. ستأسس أسرته لاحقًا مملكة وو، الدولة القوية التي لعبت دورًا محوريًا في حقبة الممالك الثلاث.
ورث أبناء سون جيان، سون تسه وسون تشوان، روح القتال عنه. كان سون تسه، الأكبر، معروفًا بجرأته المندفعة، بينما تميّز سون تشوان بالهدوء والتروي وكان إداريًا بارعًا. بعد وفاة سون جيان واصل أبناؤه إرثه فبنوا دولة مزدهرة وقوية على ضفاف نهر اليانغتسي. أصبحت وو معقلًا للقوة والصمود، وتحت قيادة سون تشوان تحولت إلى مملكة منظمة ذات أسطول بحري قوي.
معركة المنحدرات الحمراء
مع تحوّل موازين القوى، وجدت الممالك الثلاث وي وشو وو أنفسها على طريق تصادمي أدى إلى واحدة من أشهر المعارك في التاريخ الصيني — معركة المنحدرات الحمراء. بعد أن سيطر تساو تساو على جزء كبير من الشمال، وضع نصب عينيه الجنوب بقصد فرض حكمه على البلاد بأسرها.
بجيشٍ وأساطيل ضخمة توجّه تساو تساو نحو نهر اليانغتسي. وإزاء هذا التهديد تشكل تحالف مؤقت بين ليو باي وسون تشوان، فقد أيقنا أنّ أيًا منهما لا يستطيع مواجهة قوة تساو تساو بمفرده. وحدوا قواتهم واستعدوا لمعركة حاسمة عند المنحدرات الحمراء على ضفاف اليانغتسي.
وضع المستشار الشاب والبارع تشوغي ليانغ، الذي خدم ليو باي، إلى جانب مستشار سون تشوان تشو يو، خطةً لاستخدام النار في تحطيم أساطيل تساو تساو. ومع حلول الليل أضرمت قوات وو وشو النار في سفن تساو تساو، فعمّ الفوضى في صفوف جيشه. انهزمت قوات تساو تساو، وتعطّل طموحه في توحيد الصين — على الأقل لوقتٍ مؤقت.
تأسيس الممالك الثلاث
بعد نصر المنحدرات الحمراء، تشكّلت الممالك الثلاث رسميًا. أعلن تساو تساو نفسه حاكمًا لمملكة وي في الشمال، فيما استولى ليو باي على حكم شو في الغرب، وثبّت سون تشوان دولة وو في الجنوب. انقسمت الصين رسميًا، وشهدت السنوات التالية سلسلة من المواجهات والخِدع والتحالفات بينما تنافس كل طرف على الهيمنة.
حاول ليو باي، المدعوم بحكمة تشوغي ليانغ وببسالة قوان يو وتشانغ فاي، توسيع أراضي شو معتقدًا أنه من حقه الإلهي استعادة سلالة هان. كانت مقاصده نبيلة، لكنه اصطدم بمقاومة عنيفة من وي وو على حدٍّ سواء.
كانت حقبة الممالك الثلاث زمنًا لتقلّب الولاءات؛ فقد يتحول الحليف بسرعة إلى عدو، ولم تكن روابط النسب بمنأى عن طمع السلطة. كانت وفاة قوان يو على يد قوات سون تشوان ضربة قوية لليو باي، فقاد، بدافع الحزن والغضب، حملةً فاشلة ضد وو أدت في النهاية إلى إضعاف شو.
حكمة تشوغي ليانغ
كان تشوغي ليانغ، مستشار ليو باي الموثوق، معروفًا بحكمته الفائقة. بعد وفاة ليو باي حمل تشوغي ليانغ عبء تحقيق حلم سيده في استعادة سلالة هان، فشنّ سلسلة حملاتٍ شمالية ضد وي مصممًا على إتمام إرث ليو باي.
رغم أن استراتيجياته كانت بارعة، فشلت حملات تشوغي ليانغ في النهاية. كانت دفاعات وي صلبة، وعلى الرغم من جهوده العظيمة لم يستطع تحقيق النصر. تدهورت صحته نتيجة ضغوط الحروب المتواصلة، وتوفي خلال حملته الأخيرة، تاركًا شو أضعف وأكثر عرضة للخطر.
الانحدار والسقوط
مع وفاة تشوغي ليانغ كافحت شو للحفاظ على مكانتها. نمَت قوة وي تحت قيادة سيما يي ونسله، فوحدوا السلطة وقضوا على المعارضين. كما بدأ وو يضعف تدريجيًا مع اشتداد الصراعات الداخلية التي أضرت باستقراره.
وأخيرًا، في عام 280 ميلادي، وبعد عقودٍ من الحرب وسفك الدماء، غزت أسرة جين، التي أسسها أحفاد سيما يي، وو وأنهت حقبة الممالك الثلاث. توحّدت الصين من جديد، لكن أساطير وقصص الممالك الثلاث استمرت حيّة، ملهمةً الأجيال بحكايات عن الولاء والبطولة والتضحية.
خاتمة: إرث الممالك الثلاث
قد تكون حقبة الممالك الثلاث قد انتهت منذ قرون، لكن أثرها على الثقافة والتاريخ الصينيين عميق. أصبحت شخصيات تلك الفترة المضطربة — تساو تساو، ليو باي، سون تشوان، تشوغي ليانغ، قوان يو وغيرهم — رموزًا لفضائلٍ ورذائل مختلفة. وتبقى حياتهم، المليئة بالطموح والولاء والخيانة والتضحية، مصدر إلهام في الأدب والفن والأساطير الشعبية.
خلّد الأدب هذه الأحداث في رواية «الممالك الثلاث» التي كتبها لوو قوانتشونغ، فمزجت بين التاريخ والأسطورة وأعادت إحياء قصص أبطالها. وحتى اليوم تُدرس وتُحتفل بحقبة الممالك الثلاث، شاهدةً على زمنٍ كانت فيه تصرفات قلةٍ من الأفراد كفيلة بتشكيل مصير أمةٍ بأكملها.
