امتدت سماء الأنديز في رقعة لا نهاية لها من زرقةٍ داكنة فوق بحيرة تيتيكاكا، وكان الهواء نقياً لدرجة أنه بدا كسكين يخترق رئتي إلينا كروز. نشأت إلينا في لا باز، وكانت تسمع دائماً أساطير البحيرة — مكان مقدس لشعبي الأيمارا والإنكا، مُفعمٌ بحكايات الآلهة والأرواح والكنوز الضائعة عبر الزمن. لكن أسطورة واحدة كانت تطارد أحلامها أكثر من غيرها: الصخور المغنية. يقال إنه عند الغروب تستفيق الأحجار قرب جزيرة الشمس بلحنٍ غير دنيوي، يحمل في طياته أسراراً أقدم من البحيرة نفسها.
سمعت القصة لأول مرة وهي طفلة مطمئنة عند قدمي جدتها بجانب نار متقدة. همست لها جدتها، ويداها المليئتان بالتجاعيد تنسجان الحكاية: «الأحجار حية يا صغيرتي. إنها تغني لمن لهم قلوب نقية. لكن احذري — إن اقتربتِ منها بطمع، سيلعنكِ وتجرّكِ إلى أعماق البحيرة.»
والآن، وهي عالمة أنثروبولوجيا مولعة بأساطير الأنديز، أتيحت لإلينا الفرصة لملاحقة القصة التي أسرت خيالها منذ الصغر. بتمويلٍ من منحةٍ بحثية جامعية، انطلقت إلى بحيرة تيتيكاكا مع فريق، مصممةً على كشف الحقيقة حول الصخور المغنية.
تحذير في الريح
استقبلت كوباكابانا إلينا بمزيج من السكينة وعدم الارتياح الطفيف. بدت البلدة المطلة على ضفاف البحيرة كصورةٍ من شوارع مرصوفة ومباني مبيضة وأسواق زاهية تعج بروائح السمك المشوي وشاي الكوكا. مع ذلك، عندما سألت السكان المحليين عن الصخور المغنية كانت إجاباتهم غامضة. كثيرون عملوا علامة الصليب وتمتموا بالصلوات بصوت خافت، متجنبين النظر إليها.
حذرها أحد الباعة وهو يمدها بكيس من المانغو الطازج: «الصخور ليست للغرباء. إنها تغني للأرواح، لا للآذان الفضولية.»
كان دليل إلينا رجلاً أيمارياً شيخاً يُدعى دون تيودورو. بدا أقل استهانة لكنه لم يكن أقل حذراً. وافق أن يأخذها إلى جزيرة الشمس، لكن بعد أن أجرى طقساً صغيراً على شاطئ البحيرة. رشّ أوراق الكوكا وشحم اللاما على مذبحٍ مؤقتٍ من الحجارة وتلوّى بدعاءٍ بلغة الأيمارا. حين سألت إلينا عن الطقس ابتسم لها ابتسامة دالّة.
«البحيرة حية، دكتورة كروز. إنها تراكِ. إن لم تكوني مرحباً بكِ هنا، فستعلن عن ذلك.»
الرحلة إلى جزيرة الشمس
لم يكن القارب المصنوع من القصب مثل الزوارق الحديثة ذات المحركات المتمايلة هناك. كان يتأرجح مع إيقاع البحيرة الرقيق بينما يجدّف دون تيودورو بثبات، وملامحه المتجعدة بلا تعبير. جلست إلينا في المقدمة، ودفتر ملاحظاتها مفتوح لكنه ظلّ دون كتابة، شاردةً بحضور البحيرة الساحق. كان الماء يلمع تحت شمس الظهيرة، وسطحه مرآة تعكس قمم الجبال المغطاة بالثلوج في البعد.
قال دون تيودورو بعد صمت طويل: «بحيرة تيتيكاكا مقدسة. بالنسبة إلينا ليست مجرد ماء. إنها رحم الخلق. الصخور المغنية... هي جزء من ذلك الخلق.»
سألت إلينا، كاسرةً سحر هدوء البحيرة: «هل تؤمن أن الصخور تغني فعلاً؟»
لم يجيب فوراً. حدّق في الأفق، وعيناه تضيقان أمام وهج الشمس. أخيراً قال: «نعم، هي تغني. لكن هل ستسمعينها يعتمد على قلبكِ.»
وصلوا إلى جزيرة الشمس بينما كانت الشمس منخفضة تنثر ضوءاً ذهبياً على التلال المدرّجة. كانت الجزيرة هادئة سوى ثغاء ماعز أو ضحكات أطفال من بعيد. قادها دون تيودورو إلى قرية صغيرة سيقضون فيها الليل. قال: «غداً سنذهب إلى الصخور. الآن استريحي. ستحتاجين ذلك.»
الأغنية الأولى
استيقظت إلينا مبكراً متلهفة لاستكشاف الجزيرة. قضت الصباح في توثيق آثار الإنكا المنتشرة على التلال: متاهة تشينكانا والمذبح الطقوسي على أعلى نقطة في الجزيرة. لكن مع مرور النهار كانت أفكارها تعود مراراً إلى الصخور المغنية.
قادها دون تيودورو إلى خليج منعزل في أواخر العصر. التعرج في الطريق عبر نباتات كثيفة قبل أن ينفتح على شاطئ صخري. هناك، بارزة من الماء، كانت الصخور المغنية — سوداء خشنة، لأسطحها بريق كالزجاج البركاني في ضوء الغسق المتلاشي. بدت قديمة، وكأنها على شفير الحياة.
قال دون تيودورو بينما تغرب الشمس: «ثبتي. استمعي.»
في البداية كان هناك صوت أمواج البحيرة الرقيقة وهي تحتك بالحجارة. ثم، حين لمست الشمس الأفق، برز همهمة خفيفة. لم تكن نغمة واحدة بل تناغم من الأصوات العميقة الرنانة، كجوقة تتردد في الماء والهواء. ارتفع الصوت وملأ الخليج بلحنٍ من عالم آخر.
حبست إلينا أنفاسها. لم يكن مجرد صوت — بل شعور أعمق، شيئاً بدا وكأنه يهتز في صدرها وعظامها. كتبت بسرعة وعلى نحو فوضوي في دفتر ملاحظاتها محاولةً التقاط اللحظة، لكن الكلمات بدت غير كافية.
همست: «ما... ما هذا؟»
لم يرد دون تيودورو. بل ركع عند حافة الماء، ورأسه منحنٍ كما لو كان في صلاة.
الخريطة
ظلّ اللحن يلازم إلينا طويلاً بعد غروب الشمس، مطاردًا أحلامها تلك الليلة. لم تستطع التخلص من الإحساس أن الصخور أكثر من مجرد ظاهرة جيولوجية. في صباح اليوم التالي، بينما كانت تشارك ملاحظاتها مع أهل القرية، اقتربت منها امرأة تُدعى يارا وهي تمسك قطعة بردية مهترئة.
قالت يارا بصوت مرتجف: «هذه كانت لجدّي. كان يعتقد أن الصخور المغنية تحرس كنزاً عظيماً — معبداً تحت البحيرة.»
كانت الخريطة بدائية ولكن لا تخطئها العين، تشير إلى مسار من الخليج إلى نقطةٍ عميقة تحت الماء. تسارعت دقات قلب إلينا. لو كانت الخريطة حقيقية فقد تقود إلى واحدٍ من أعظم الاكتشافات في تاريخ الأنديز. لكن ملامح دون تيودورو اعتكرت وهو يدرس الرق.
حذر قائلاً: «هذا ليس كنزاً للبشر. الصخور تحمي ما يكمن تحته. إزعاجه يعني دعوة غضب البحيرة.»
لكن إلينا لم تستطع التخلي عن الفكرة. اشتعلت روح العالمة فيها بالفضول. في تلك الأمسية أقنعت دون تيودورو أن يأخذها للغوص، واعدةً ألا يزعجا شيئاً.
في أعماق البحيرة
كان الماء جارداً للبرودة حتى عبر بدلة الغوص، بينما كانا ينزلان إلى الأعماق. مسترشدين بالخريطة والاهتزازات الخفيفة لأنغام الصخور، سبحا نحو كهفٍ مغمور. كان مدخله محدداً بعمودين حجريين ضخمين، سطوحهما منحوتة بنقوشٍ معقّدة تلمع بخفوت في الضوء الخافت.
داخل الكهف انفتح على حجرة واسعة ممتلئة بطحالب مضيئة ذاتياً، تلقي وهجاً أخضر غريباً. في وسطها وقف مذبح حجري ضخم، سطحه منقوش بمجموعةٍ من الأنماط النجمية ورموزٍ غريبة. تحيط به تماثيل لشخصيات ذات أطرافٍ ممدودة ووجوه هادئة، وأيديها مرفوعة كما لو كانت في حالة عبادة.
تسارعت دقات قلب إلينا. لم يكن مجرد معبد — بل شيء أقدم، شيء من عالمٍ آخر. مدت يدها لتلمس إحدى النقوش، لكن اهتزازاً مفاجئاً أوقفها. ازداد الصوت حتى كاد أن يصم الآذان، وبدا الماء وكأنه ينبض بطاقة.
أمسك دون تيودورو ذراعها، وعيناه اتسعتا من الخوف. صعدا بعدها بلحظات يلهثان بحثاً عن الهواء.
اللعنة
انتشر خبر اكتشاف إلينا بسرعة في القرية، وكانت ردود الفعل متباينة. بعضهم أشاد بشجاعتها، بينما همس آخرون عن لعنات. تلك الليلة، بينما كانت عاصفة تهيمن على البحيرة، بقيت إلينا مستيقظة وذهنها يركض. دوت الرعود كصوت إله غضبان، وعوت الريح عبر أزقة القرية.
فجأة ارتفع لحن الصخور المغنية فوق هدير العاصفة، صارخاً ومرتعشاً. هرعت إلينا إلى الخليج فوجدت الصخور تتوهج بخفوت. بدا اللحن متضرعاً، محذراً إياها من البقاء.
اشتدت العاصفة وارتطمت موجة هائلة بالأحجار كادت تجرفها. سقطت على ركبتيها مرتجفة. همست: «أعتذر. لم أقصد إزعاجكم.»
كأنما استجاب اللحن، فخفّ وصار ألطف، وبدأت العاصفة تنحسر. عادت إلينا متعثرة إلى القرية، مهتزة لكنها على قيد الحياة.
إرث الحارس
أدركت إلينا أنها لا تستطيع البقاء. كانت رسالة البحيرة واضحة. قبل المغادرة عرضت نتائج بحثها على أهل القرية وحثّتهم على حماية الموقع. قالت: «هذا ليس مجرد تاريخ — إنه إرث مقدس.»
رافقها دون تيودورو إلى القارب صباح اليوم التالي. قال لها: «أنتِ محظوظة. البحيرة سعدت بك لأن قلبك كان نقيّاً. لكن تذكري — هذه ليست قصتك لتروينها.»
أومأت إلينا، وغاصت كلماتُه في أعماقها. بينما حملها القارب بعيداً نظرت إلى الجزيرة، وصخورها تتوهّج بضوء الصباح. كانت الصخور المغنية صامتة، لكنها ما تزال تشعر بنغمها داخل قلبها.
الخاتمة: الأغنية الأبدية
عند عودتها إلى لا باز نشرت إلينا بحثها لكنها حذفت تفاصيل رئيسية حفاظاً على سرية موقع الصخور. واصلت دراسة أساطير الأنديز، وازداد احترامها للبحيرة وحراسها. رغم أنها لم تعد إلى بحيرة تيتيكاكا أبداً، ظلت ألحانها تطارد أحلامها، تذكرةً بأن بعض الألغاز قُدِّر لها أن تبقى بلا حل.
حتى اليوم يزعم زوار جزيرة الشمس أنهم يسمعون أنغاماً غريبة عند الغروب، تحملها الريح كالهمسات من عالم آخر. ربما لا تزال الصخور المغنية تراقب البحيرة، تنتظر أولئك الذين يجرؤون على الاستماع.
