في قديم الزمان، في أرضٍ كانت تغرب فيها الشمس دائمًا بلونٍ ذهبي وتتلألأ الليالي بملايين النجوم، وُجدت غابة لا تشبه أي غابةٍ أخرى. كانت هذه الغابة تُعرف باسم الغابة المسحورة، مكان تنحني فيه قوانين الطبيعة بطرقٍ عجيبة. كانت الأشجار تهمس بالأسرار فيما بينها، والأنهار تغني تهويدات، وكانت الريح تحمل حكاياتٍ عن سحرٍ قديم.
كانت الغابة عالمًا من العجائب، حيث يحمل كل ركن مفاجأة جديدة، وتقود كلّ دربٍ إلى مغامرة مختلفة. بدا الزمن فيها كأنه قد توقف، وذابت هموم العالم الخارجي في حفيف الأوراق الرقيق وتوهُّج اليراعات الخافت.
لم يعرف أحد بالضبط كيف نشأت الغابة. قال بعضهم إنها من صنع ساحرٍ قديمٍ سئم فوضى العالم فابتكر ملاذًا من السلام والجمال. واعتقد آخرون أنها هدية من الآلهة، مكان يمنح البشر لمحةً من المقدس. لكن مهما كانت أصولها، فقد أصبحت الغابة المسحورة ملاذًا لكل من يبحث عن العزاء أو المغامرة أو مجرد مكانٍ للحلم.
في يومٍ من الأيام، وجدت شابة تُدعى إيلارا نفسها واقفةً على حافة هذه الغابة الغامضة. كانت إيلارا مسافرةً، قلبها ملئ بالفضول وعقلها يغص بالأسئلة عن العالم. سمعت الكثير عن الغابة المسحورة، عن عجائبها ومخاطرها، وتوقّت أن تراها بعينيها.
بينما كانت تقف، تتمعّن في الأشجار الشاهقة والضباب الخفيف الذي يلتف حول جذورها، شعرت بجذبٍ غريبٍ، كما لو أن الغابة نفسها تدعوها للدخول. أخذت نفسًا عميقًا، خطت إلى الأمام، وبدا العالم من حولها يتغير.
ازداد دفء الهواء، وأصبحت الألوان أكثر حيوية، وتحولت أصوات الغابة إلى سمفونية حياة. طيورٌ بريشٍ كألوان قوس قزح ترفرف بين الأغصان، امتزجت أناشيدها بأزيز النحل ونقيق الضفادع. تفتحت الأزهار بكل ظلال الطيف، وفتحت بتلاتها على مصراعيها لاستقبالها.
سارت إيلارا أعمق في الغابة، مندهشةً بجمالها. ولكن كلما تعمقت لاحظت أمورًا أغرب. كانت الأشجار هنا عتيقةً جدًا، جذوعها ملتوية متشابكة، ولحاءها مغطًى بالطحالب والأشنات. نقش في بعضها وجوهٌ، كما لو أنها تراقب العالم منذ قرون. كانت الأرض تحت قدميها ناعمةً ومرنةً، وتشعر بنبض الأرض من خلال حذائها.
أثناء سيرها، رأت فسحةً تضم بركةً صافيةً كالزجاج، سطحها يعكس السماء أعلاه كمرآة. جثت بجانبها وغرست أصابعها في الماء البارد. ومع امتداد التموجات رأت شيئًا غريبًا: انعكاس السماء في الماء بدأ يتغير، فأراها صورًا لأراضٍ بعيدة، جبالًا ومحيطات، وأناسًا لم تلتق بهم من قبل. بدا كأن البركة تُريها العالم خارج الغابة، عالمًا لم تكتشفه بعد.
وقفت إيلارا وامتلأ ذهنها بالأسئلة. أيُّ مكانٍ هذا الذي يستطيع فيه الماء أن يمنح رؤى عن المستقبل؟ علمت أنه ينبغي عليها أن تواصل رحلتها لترى أسرار الغابة الأخرى.
تابعت السير، وكان طريقها يلتف بين الأشجار حتى وصلت إلى موضع بدا فيه أن الغابة تزداد ظلمة. نادرًا ما يخترق ضوء الشمس الظلَّة الكثيفة فوقها، وبدا أن الظلال تتحرك من تلقاء نفسها. شعرت إيلارا بقشعريرةٍ تسري في جسدها، لكنها واصلت التقدم مدفوعةً بفضولها.
في هذا الجزء الأكثر ظلمة من الغابة كانت الأشجار أقدم، جذوعها سميكة ووقورة. كان الهواء مثقلاً برائحة التراب الرطب والتحلل، ولم تكن هناك أصوات سوى نداءات البوم البعيدة وحفيف مخلوقاتٍ لا تُرى في الأدغال.
فجأةً سمعت إيلارا صوتًا ناعمًا عذبًا ينادي باسمها. استدارت، فلا أحد هناك. عاد الصوت من جهةٍ أخرى. ترددت إيلارا، وقلبها يطرق في صدرها. كانت تعلم أنها يجب أن تكون حذرة، لكن في ذلك الصوت ما كان مغريًا ومطمئنًا لدرجة أنها لم تستطع مقاومة اتباعه.
اتبعت الصوت عبر الأشجار، وقدماها تتحركان من تلقاء نفسيهما، حتى وصلت إلى فسحة صغيرة. في وسط الفسحة وقفت امرأة، بشرتها شاحبة كضوء القمر، وشعرها أسود كالليل. كانت ترتدي ثوبًا فضيًا يلمع في الضوء الخافت، وعيناها تشبهان زرقة سماء الفجر.
قالت المرأة بصوتٍ ناعمٍ كالنسيم: «مرحبًا يا إيلارا، لقد كنتُ في انتظارك».
حدقت إيلارا في المرأة وامتلأ عقلها بالأسئلة. «من أنتِ؟» سألت بصوتٍ مرتعش.
ابتسمت المرأة ابتسامةً حزينةً حنونة، وقالت: «أنا حارسة هذه الغابة. لقد راقبتها لسنواتٍ عديدة، وحافظت عليها من الذين يريدون إيذاءها».
تجهمت إيلارا قائلةً: «إيذاءها؟ من الذي قد يرغب في إيذاء مكانٍ بهذا الجمال؟»
اختفت ابتسامة المرأة، ومالت عيناها إلى البعد. قالت: «هناك من لا يفهم سحر هذا المكان. يرونه شيئًا يجب قهره وترويضه. لكن هذه الغابة حية، إيلارا. لها روحٌ خاصة ويجب حمايتها».
أومأت إيلارا وقد بدأ الوعي يرتسم في ذهنها. «وهل كنتِ تفعلين ذلك طوال هذا الوقت؟»
أجابت المرأة: «نعم، لكن لا أستطيع فعل ذلك وحدي. الغابة بحاجة إلى من يفهمها، من يساعد على حمايتها. ولهذا أنتِ هنا، يا إيلارا».
اتسعت عينا إيلارا: «أنا؟ لكنني مجرد مسافرة. لا أعرف شيئًا عن السحر أو حماية الغابات».
عاد ابتسام المرأة، أكثر دفئًا هذه المرة: «لديكِ قلب طيب، يا إيلارا، وروحٌ تبحث عن الحقيقة. هذا يكفي. ستعلّمك الغابة الباقي».
اجتاح إيلارا مزيجٌ من المشاعر؛ خوفٌ وحماسٌ معًا. جاءت إلى الغابة المسحورة باحثةً عن مغامرة، لكنها لم تتوقع أن تُكلّف بحماية مكانٍ يفيض بالسحر والعجائب.
ولكن عندما نظرت في عيني المرأة هدأت، وتسرب السكينة إلى صدرها. علمت أن هذا قدرها وأنها أُحضرت إلى هذا المكان لسبب. وعرفت أنها لا تستطيع أن ترفض هذا النداء.
قالت بصوتٍ ثابت: «سأفعل ذلك. سأساعدكِ في حماية الغابة».
ابتسمت المرأة وعيناها تلمعان بالموافقة: «شكرًا لكِ يا إيلارا. ستكون الغابة في أيدٍ أمينة معكِ».
مع تلك الكلمات تراجعت المرأة، وبدا أن الظلال حولها تتكاثف وتلفها. قبل أن تقدر إيلارا على أن تقول شيئًا، اختفت المرأة، تاركةً إياها وحيدةً في الفسحة.
لبرهةٍ وقفت إيلارا مترددةً، ثم أحست بنسمةٍ دافئة على وجهها، فأيقنت أن الغابة ترشدها. استدارت وبدأت تمشي عائدةً على نفس الطريق، خطواتها واثقة ومطمئنة.
وبينما تمشي لاحظت أن الغابة حولها قد تغيرت. لم تعد الأشجار تبدو قاتمة ومرعبة، وامتلأ الهواء بعطر الأزهار. تصاعدت أصوات الطيور أكثر فرحًا، ومرَّ ضوء الشمس عبر الأوراق مكسوًا كل شيء بتوهجٍ دافئ.
أيقنت إيلارا أن الغابة قد قبلتها ورحبت بها كحاميةٍ لها. شعرت بشعورٍ عميقٍ من السلام واتصالٍ بالأرض لم تختبره من قبل. علمت أن هذا هو مكان انتمائها، وأن هذه الغابة صارت بيتها.
تحولّت الأيام إلى أسابيع، والأسابيع إلى شهور، بينما كانت إيلارا تتعلّم طرق الغابة. تعلمت أن تصغي إلى الأشجار، أن تفهم همساتها وتحذيراتها. تعلمت قراءة إشارات السماء والأرض، فتعرف متى تقترب العاصفة ومتى تحتاج مخلوقةٌ إلى العون. تعلمت أن توظّف سحر الغابة لشفاء المرضى وحماية الضعفاء.
ولكن الأهم من ذلك كله أنها تعلمت أن تحب الغابة، أن تراها ليس مجرد مكانٍ جميل بل كيانٌ حي يتنفس. أدركت الهشاشة الرقيقة لتوازن الحياة داخل حدودها، وكيف أن كل مخلوق ونبتة لهما دور في الكل. وعرفت أنه من واجبها أن تحمي هذا التوازن، لتضمن بقاء سحر الغابة لأجيالٍ قادمة.
في يومٍ من الأيام، بينما كانت إيلارا تسير في الغابة صادفت مجموعةً من المسافرين الضالين. كانوا منهكين وجائعين، وملامح الخوف ترتسم على وجوههم. اقتربت إيلارا منهم وقلبها يفيض بالرحمة.
قالت لهم بصوتٍ رقيق: «لا تخافوا، أنتم بأمان هنا».
نظر إليها المسافرون بعيون مفتوحة، وتلاشى خوفهم تدريجيًا. سأل أحدهم: «من أنتِ؟»
أجابت: «أنا إيلارا، حامية هذه الغابة، وسأرشدكم إلى طريقكم».
اندهش المسافرون من لطفها ومعرفتها بالغابة. تبعوها وهي تقودهم عبر الأحراش، مارةً بمخاطر خفية، وكاشفةً لهم عن عجائب الغابة المسحورة. رأوا أشجارًا تتوهج بضوءٍ داخلي، وزهورًا تغنّي، وجداول تتلألأ كالألماس. ومع السير ذابت مخاوفهم وحلَّ محلها شعورٌ بالرهبة والدهشة.
عندما وصلوا أخيرًا إلى حافة الغابة التفت المسافرون إلى إيلارا وامتلأت أعينهم بالامتنان. قالوا: «شكرًا لكِ، لولاكِ لَضَلَلْنَا».
ابتسمت إيلارا وقلبها يفخر. قالت: «أنتم مرحبٌ بكم دائمًا في الغابة المسحورة، لكن تذكروا أن هذا المكان ليس مجرد ملاذ؛ إنه مكان للسحر والغموض ويجب احترامه».
أومأ المسافرون، مدركين حكمة كلماتها. شكرُوها مرةً أخرى ثم انطلقوا في طريقهم وقلوبهم أخف وأرواحهم مرتفعة.
وبينما تراقبهم إيلارا غادين شعرت برضاٍ عميق. علمت أنها أوفت بواجبها وأنها حمت الغابة وسحرها، وعرفت أنها ستواصل فعل ذلك ما دامت حية.
وهكذا بقيت إيلارا في الغابة المسحورة، حارسةً لعجائبها وحاميةً لأسرارها. عاشت حياةً ملؤها السلام والهدف، محاطةً بجمال الغابة والسحر الجاري في عروقها. ورغم وحدتها، لم تشعر بالوحدة قط، فالغابة كانت بيتها ومخلوقاتها رفقاءها.
استمرت الغابة المسحورة في الازدهار تحت رعاية إيلارا، وسحرها يقوى يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من قدوم كثيرين لطلب عجائبها، لم يُرحّب داخل حدودها إلا من فهم طبيعتها الحقيقية.
فالغابة المسحورة لم تكن مجرد مكانٍ للجمال والغموض؛ بل كانت كيانًا حيًا يتنفس، حيث يتشابك السحر مع الطبيعة في رقصةٍ رقيقة. وطالما وُجد من هم على استعداد لحمايتها، سيستمر سحرها منارةً للأمل والعجب في عالمٍ كثيرًا ما ينسى قوة ما لا يُرى.
وهكذا ظلت الغابة المسحورة قائمةً بلا زمنٍ يطالها، خالدةً وأبديةً، مكانًا تتحقق فيه الأحلام ويعيش فيه سحر العالم. وأولئك الذين يجدون طريقهم إلى قلبها، مثل إيلارا، يتغيرون إلى الأبد، وتلمس حياتهم لمسة السحر الجارية في أشجارها وأنهارها وهوائها.
