الرجل الذي يريد أن يصبح ملكاً.

المقدمة

في ربيع عام 1882، انسلّ الكابتن جيمس أونسلو ورفيقه دانييل بريستون من صالونات بومباي المذهّبة إلى عالم تحدّت فيه البوصلة وأحبط فنّ صانعي الخرائط. كان بحوزتهما جوازات سفر مختومة بختم حكومة صاحبة الجلالة البريطانية، ورسائل تعريف من بيوت تجارية، ودافع لا يقاوم لاختبار قدراتهما أمام جبال الهندوكش الأسطورية. وصلت إليهما في لندن إشاعات عن وادٍ مخفي بعيدًا خلف الحدود الأفغانية، يحكمه أمير متداعٍ حظر دخول الأجانب وفرض ضرائب مستحيلة على القوافل. كان الدافع—والمغامرة—تقعان في مكان ما بين رغوة حانة وسطر النهاية في رواية عاشقين: وعد بثروات مجهولة، وسمعة، ومملكة خاصة لهما عند طرف حافة ضيّقة. استأجرا مرشدين محليين، ورشوا الموظفين عند الحواجز الحدودية، وشرعا في حجّ من رياح عليلة، وممرات غادرة، وليالٍ قضياها متلاصقين تحت ستار من النجوم اللامعة التي أنارت السهوب كالمصباح المحطم. صار الهواء أرق مع كل فجر، وبدأت حتى هيبة أونسلو العسكرية وهدوء بريستون الرزين تتآكلان تحت الأقدام المجمدة والكفوف المشققة. ومع ذلك كانت كل خطوة تثير الفضول: حصن مخفي محفور في منحدرات وردية، ورذاذ ثلجي يرقص كأرواح في الهواء، ونُهج قديمة تحدثت عن إمبراطوريات ضاعت في ذاكرة الزمن. قبل الفجر في اليوم الثالث والأربعين، اجتازا آخر تلة، فبدا أمامهما وادي أريغان — مهد مسوّر من قلاع منهارة وقنوات ري متعرّجة وحقول كانت تطعم جيوشًا لكنها أصبحت بورًا الآن. هنا، بعيدًا عن سلطان الراج البريطاني، قرّرا أن يتوّجا أنفسهما ملوكًا، مؤسِّسين إمبراطورية وُلدت من الجرأة والوهم.

إلى المجهول

عندما وطأ أونسلو وبريستون أولًا تلال الهندوكش الحادة، وجدا نفسيهما في عالم من صخور منحوته الرياح وارتفاعات مستحيلة، حيث كان السماء بلون أزرق كبودي نقي يؤلم العين، كأن ضوء النهار يمحو أي حدّ بشري. تخبطت أقدام جمالهما على صفائح الصخور المتكسرة والحجارة الطائشة، وكل خطوة تثير انهيارات صغيرة من الغبار تلمع كغبار النجوم تحت شمس الصباح. تحرّكا بدقة عسكرية: كان أونسلو يجسّ الطريق ببوصلة نحاسية وبريستون يعدّ المؤن على ضوء فانوسٍ خافت. لكن ما حكم الأرض وراء بيشاور لم تكن الخرائط ولا طرق التجارة، بل همسات عن عشائر شرسة ولاؤها للدم والسيف. شرع البريطانيان في الكلام بصوتٍ خافت، مُبرمين مع كل مرشد معاهدات هشة، وكان رشُو النحاس لا تكفي أبدًا لطمأنة نظرات الرجال المسلحين عند أحزمتهم. في الليالي حين تخبو نار المخيم، كان بريستون يتوقف ليتأمل الكواكب أعلاه، يلاحظ غياب ما يُشبه صليب الجنوب، ويتخيل كم ابتعدا عن الإمبراطورية التي يخدمانها. تسلل الصقيع عبر بطانياتهما الصوفية الرقيقة، وكل صباح يستيقظان قبل الفجر، وعيونهما تحترق وعضلاتهما تتألم، ليقطعا ممرات يسودها صمت مطلق لا يكسره إلا طقطقة الريح القارعة للعظم. عبرا طريق قوافل قديم مخدوش بعجلات العربات التي لم تَرَ تاجرًا أجنبيًا منذ عقود، ومع ذلك ما زالت تحمله أشباح تجار اختفوا وهم يطاردون ثروات في مدن ذهبية لم توجد قط. ومع غروب الخيام خلف ظلال قمة مسننة، تلاشى إقليم الراج البريطاني كماضٍ، ولم يبق أمامهما سوى وعد — وخطر — وديان غير معروفة قد تمنح ملاذًا لملوك لم يولدوا بعد.

في منتصف الطريق، هبت عاصفة بلا إنذار، فاستبدلت البهاء بصمت قاسٍ غطَّى المنحدرات بألواح دوّامة من الثلج. المرشدون الذين كانوا يقودون بخطوات واثقة صاروا يتعثرون كالأشباح، مثقلين بحقائب نصف متجمدة وأعصاب مهترئة من هدير انهيارات الثلج التي تتردد في الأخاديد. أونسلو ضَرَب بالفِلِنْت على الفولاذ ليوقظ شررًا تحت القماش المشمع على أمل غليّ شاي بطعم السخام، بينما تلا بريستون وصفات طبية من يوميات السفر، يعالج أطراف أصابعهما المتجمدة بقطع قماش مشبعة بالويسكي والبراندي. كل قرار كان يرسل تموُّجات الخوف في صفوف رفقتهما: بطيئان جدًا فيأخذهما البرد، وسريعان جدًا فيسقطان في صدوع مخفية تبتلع الخيول دون رحمة. انقسم الزمان إلى مسيرات ساعة واحدة وصلوات يائسة، لا يُقاس إلا بصرير الريح في الحناجر. وعندما هدأت العاصفة أخيرًا في الليلة الخامسة، كشفت عن هضبة لا تُخيّل: تندرا واسعة متناثرة ببحيرات كبودية، تعكس أسطحها الداكنة ضوء القمر الشاحب كمرايا مصقولة. تقدما بحيوية متجددة، غير واثقين ولكن رافضين لتخيّل أن يجدهما منقذ إن تعثرا. وحتى تحت فرحة النجاة الهشة، قرصهما سؤال لم يجرؤ أي منهما على نطقه: لماذا المخاطرة بكل شيء من أجل إقليم غير مرسوم قد لا ينتمي لأحد، أو، وما هو أسوأ، ينتمي للجميع عداهما؟

حين نزلا إلى حافة وادي أريغان، كانت الشمس معلقة منخفضة على منحدرات حمراء تتوهّج كجمرة في موقد يحتضر. تحتهما تفترش أنقاض نصف مبتلعة بأغصان الشوك والكروم، وجدران متوجة بمرابط ومنارات متداعية تهمس بحكايات جيوش وإمبراطوريات تحولت إلى غبار. انزلقت أقدامهما على منحدرات ضيقة محاطة بتماثيل عظمية — منحوتات متآكلة من الجرانيت الوردي — وعبرا بوابة نحتت من لوح واحد من العقيق الأسود كظلام الليل. امتد أمامهما نسيج من الحقول تغذيه قنوات مهجورة منسيتها الأيام، حيث تهمس صفوف القمح والشعير في نسمات معطرة بنواضر اللوز. ارتجت الأجواء بصوت اللاجئين والرعاة المحليين وتجار يخشون عرض بضاعتهم على الأطراف. هنا، في مدينة أشباح أريغان، استفاق أونسلو وبريستون ذات صباح ليكتشفا أنهما لم يعودا مجرد متعدّين بل سياديّان في الانتظار. التقيا بزعماء القبائل في قاعات من الحجر الرملي، قدّما بطانيات وبنادق ووعد الحماية مقابل الولاء، فحصدوا إيماءات رضوخ مترددة أثقلت أكثر من أي عملة فضية. في تلك اللحظات احتضنا حقيقة نادرًا ما تعترف بها الإمبراطوريات: لا يمكن اغتصاب وطن بسهولة أكبر من نبضة قلب، ولا يمكن اشتراء الولاء كذلك. بدا الوادي أمامهما كقماشٍ أبيض ملطّخ بالدماء والأمل، وبقلبين ينبضان كطبول المدفع اتفقا تحت شجرة رمان عتيقة—يتولى أونسلو قيادة الجيوش، ويُشكّل بريستون الخزينة، وسويًا سيثبتان تاجًا من تربٍ لم تُدنسها يد.

صياغة مملكة

في حرّ منتصف الصيف اللاهب، حين أنجرفت ذوبان الثلوج فتضخمت الجداول الجبلية إلى سيول هادرة، شرع أونسلو وبريستون في تحصين مطالبهما على الوادي. استوليا على الحصن الحجري القديم فوق المنحدرات المحمرة — أسوارٌ خُربَت نتيجة قرون من الحصار — وكسيا جدرانه بأعلام بريطانية ورايات مخيطة من حرير بلون الرمان. أعاد الحدادون المحليون، المغرَون بالذهب ووعود الأسواق الجديدة، تشكيل المفصلات المكسورة، وصناعة بنادق لامعة، وإصلاح أبراج كانت خاوية لأجيال. أشرف بريستون على المفاوضات جالسًا على منصة تحت مظلة من سجاجيد الصلاة المتموجة، بينما درّب أونسلو فرقةً من المرتزقة على تشكيلات أوروبية، يعيد تعليمهم السير وإطلاق النار حسب الكتاب. جندوا رعاة من العشائر لحراسات المراقبة، وعلّقوا الفوانيس على الممرات الضيقة لتحذير الغزاة في شهور الشتاء القاسية. عندما هدد شيفٌ جارٍ بالهجوم بدافع جشع، خرج أونسلو بكتلة من المشاة ومساندات قبلية، راجيًا المعاهدات كما راجيًا البنادق، مجبرًا الخصم على القسم بالولاء أو مواجهة مطاردة لا ترحم. وزن المكر الدبلوماسي والنيران المنسّقة قمع التمرد وحوّل العشائر العدائية إلى حلفاء موكلين لقضيتهما. حصدا فستقًا بريًا وتوت العرعر، وأنشآ بساتين أرسلت عبير الصنوبر وزهر اللوز يتسلل عبر الشوارع المغبرة كل ربيع. استؤنفت التجارة على طرق طريق الحرير القديمة، بقوافل تحمل سجادًا فارسيًا، وتوابل هندية، وزجاجًا فينيسيًا، محوّلة شادابشهر إلى مركز نابض على مفترق إمبراطوريات.

مع دوران الفصول، وضعا قوانين تمزج بين مبادئ القانون البريطاني والعادات المحلية، وعقدا مجالس قرى في أفنية حجرية عند الظهر بينما تخدم نساء بالأوشحة المطرزة الشاي والمعجنات المقلية الحلوة. اعتاد بريستون، المعجب بالدفاتر والكتب، تأسيس خزينة تحت سقوف قبو الحصن المقوّس، يخزن دينارات ذهبية من قوافل تجرأت على طرق الجبال للمرة الأولى منذ عقود. أصدر عملات مختومة بصورتَيْه وصورة أونسلو، محاطتين بالرمان وكلمات «إمارة شادابشهر». تداولت هذه القطع الجديدة في البازارات عند سفح الجروف، تصطك قطع النيكل جنبًا إلى جنب مع الروبيّات النحاسية في جراب التجّار الذين يبيعون الشالات الحريرية والمشمش المجفف. نظم أونسلو دورية حدودية برفقة فرسان محليين، وعلّق الفوانيس على الممرات الضيقة لتحذير الغزاة في شهور الشتاء القاتلة. عندما هدّد شيف جار بالهجوم عن طمع، خرج أونسلو بكتلة من المشاة ومساندات قبلية، ملوحًا بالمعاهدات والبنادق على حد سواء، فاضطر الخصم للحلف بالولاء أو مواجهة مطاردة لا تهدأ. مزيج الحنكة الدبلوماسية وقوة إطلاق نيران منظّم قمع الخلاف، وحوّل القبائل المعادية إلى حلفاء مخلصين للقضية. حصدا فستقًا بريًا وتوت العرعر، وزرعا بساتين أرسلت كل ربيع عبير الصنوبر وزهر اللوز في الشوارع المغبرة. استأنفت التجارة على طرق طريق الحرير القديمة، إذ جلبت القوافل سجادًا فارسيًا، وتوابل هندية، وزجاجًا فينيسيًا، فحوّلت شادابشهر إلى مركز يعج بالحياة على مفترق الإمبراطوريات.

ومع ذلك، كان أرق مشروعاتهما هو تأسيس أكاديمية مرتفعة على هضبة مشمسة جانب القلعة، حيث تعلّم المتدرّبون الحساب الأساسي، والهندسة البدائية، والفنون الأدبية ضمن منهاج صاغه بريستون بنفسه. استأجر معلمين مطّلعين على الشعر العربي والملاحم البريطانية، وحاول إذابة عداءات ممتدة لقرون بتعليم شباب أريغان القراءة بلا خشية والنقاش بلا نزف. أسهم أونسلو بخطط لقنوات ريّ تُطعم المدرجات القاحلة أدناه، موجهًا مياه الذوبان إلى خزانات تألقت فيها أسماك الكوي. أقاما معًا مهرجانات عامة كل خريف للاحتفال بالحصاد — عروض ألعاب نارية فخمة مستوردة من كلكتا، ورقصات يؤديها بهلوانيون مقنعون، ومنازلات بين فرسان يرتدون خوذًا أعيد تدويرها من غنائم عثمانية قديمة. وسط دقات طبول بهيجة، روّج تجّار هرات العنبر واللازورد، وسجّل الكتبة الأحداث في مجلدات من الرق مخطوطة بجلد الماعز. وحتى مع ارتفاع المآذن الحجرية في الأفق، إشارةً لبناء مسجد أُقيم شكرًا لعبور الطرق المقدسة بأمان، ارتفعت همسات المعارضة من خيامٍ تلامسها لهيب الشمس في الأفق. لم تكن قلاعهم مجرد حصن، بل مدينة حيّة، وكانت كل بادرة رصف تشهد على علوّ الطموح وتيارات الصراع الهادرة تحت أساسها.

مع حلول الشتاء، تلألأت شادابشهر تحت طبقات من الثلج جعلت جدران الحصن تبدو أحمرَ عمقٍ أكبر وحوّلت الأفنية إلى حدائق من المرمر الأبيض. أرسل أونسلو مبعوثين إلى قندهار وكابول، حامِلين رسائل اعتراف رسمية وبريق فولاذ بريطاني، راجين أن تُقرّ أطراف لعبة الكبار حكمهما مقابل حقوق تجارية حصرية ووعدٍ بنقطة ثبات جبلية. أقام بريستون توازن الخزينة بتصدير سجاجيد فاخرة وفواكه مجففة، وفي السر خبأ احتياطيًا من النقود لتوظيف مرتزقة إذا ما انقلبت الرياح السياسية. في سكون قبل الفجر، كان ينزل إلى القبو حيث ترقص أضواء المصابيح الزيتية فوق سُحُب السبائك المكدّسة كأهرامات، ويتأمل التحول من شردين مفلسين إلى أوصياء مملكة نقشت من الحجر والإشاعة. أولئك البسطاء الذين كانوا ينظرون إليهما بشك صاروا الآن يركعون تحت رايتيهما، وفي البازارات أصبح صدى «يحيا أمراء أريغان!» يرد كنغمة الأذان الثابتة. لكن الطموح، كما عرف أونسلو، سيف ذو حدين: مسنّن على دروع الأعداء قد يلتفت لينتزع صاحبه من الداخل. وهكذا، بينما كانت الجبال ترقد تحت قمر شاحب، تمشى على الأسوار مُتأملاً القمم الصامتة ومفكِّرًا في ثمن السيادة في أرضٍ تكون فيها الولاءات زائلة كالخطوات في ثلج طازج.

إمبراطورية الغبار

مع اقتراب العام الثاني لحكمهما، بدأت الشقوق تظهر في واجهة شادابشهر البراقة. القبائل نفسها التي أقسمت الولاء مقابل أردية حريرية بدأت تشكو من ضرائب تموّل قصورًا مزخرفة بدل بيوتِها الحجرية المتواضعة. في كابول البعيدة تمتم المبعوثون بخوف من أن تتزعزع موازين القوة الأفغانية بوجود تاج أجنبي، فاندفع قافلة من الفرسان العدوانيين يقودهم زعيم خيزران صابر خان من السهول الشرقية، سيوف ومشاعل في الأيدي. قابل أونسلو المبعوث عند الفجر على منحدر الحصن، معطفه القرمزي ظلّة تحدّ على الأسوار الصخرية. لوّح برسائل اعتراف صادرة عن وزراء في لندن — قصاصات دبلوماسية حملت وزنًا ضئيلًا أمام واقع الثأر القبلي القاسي. عندما هجم فرسان خان كسحابة جراد عبر الحقول المتجمدة، حشد أمير أريغان أسوار حصنه وأمر بدورات إطلاق نارية منظمة أسقطت فرسانًا بصوت مدوّ. ومع هذا، عن كل فارس يسقط يظهر اثنان مكانه، حتى تحوّل الثلج إلى بحر أحمر من خيول وحديد. تلك الليلة عقد أونسلو وبريستون مجلس حرب في القاعة الكبرى المتهدمة، حيث ارتدت أضواء المصابيح على الحجارة المشققة بينما كانوا يقدرون ثمن معركة قد تلتهم مملكتهم الوليدة.

نقصت المؤن ورفضت القوافل عبور الممرات تحت تهديد النهب، فاضطر بريستون للجوء إلى الاحتياط السري المخصّص للبُنى التحتية لتأجير مرتزقة من وادي كورّام. ولاء هؤلاء كان متقلبًا: انسلّ بعضهم تحت جنح الظلام بما يحملون من حصص طعام، بينما هجر آخرون مواقعهم تواقين وراء شائعات عن غنائم جديدة في السهول. حُكم الحصار على قلعة شادابشهر، ورُفعت رايات المتمرّدين في القرى المحيطة ناشرة الخوف كالنار في الهشيم. ذبلت بساتين الرمان تحت الصقيع بينما التحويلات من مناطق بعيدة أصبحت قطعًا بلا قيمة من الرق. مع نفاد الإمدادات، اتخذ أونسلو القرار المصيري بالمحاولة للمفاوضة فوق المذبح الميثراي القديم، حيث كانت تُقدّم القرابين منذ قرون. هناك، تحت مظلة من المنحدرات المهيبة، عرض على خان حصة من الخزينة مقابل السلام—ورأى وجه زعيم الحرب يتلوى بسخرية وأُطلق طلقة من بندقية فلينت، فألقى أونسلو على الحجر متدحرجًا.

عندما أدرك بريستون أن أونسلو قد سقط جريحًا في الثلج، جمع آخر ما تبقى من حرسهما بحماسة يائسة، واستخدم المسدسات ليفتح ممّرًا ضيقًا عبر خطوط المتمرّدين. حمل أونسلو على ظهر جمل وقاد هروبًا مرعبًا تحت ظل نقاط الحراسة المشتعلة على التلال. نزلوا عبر شلالات مخفية وممرات سرية تعلموها من مرشدين كان ولاؤهم للنقود أعلى من أي عهد بالولاء. مع بزوغ الفجر في الوادي، كانت بازاراته التي كانت تعجّ قد صارت خاوية، والدخان يتصاعد من مخازن الحبوب المقلوبة حيث كان التجار يتفاوضون بالأصوات في عشرات اللغات. بقلوب مثقلة، اتّبعوا طرق القوافل القديمة نحو بيشاور، تاركين مدافع متجمدة في أفواهها، وأعلامًا تتلوى كأصداء شبحية في الريح.

حين وصلوا إلى خطوط البريطانيين، كان أونسلو وبريستون شبحين لما كانا عليه من طموحين انطلقا شرقًا بقلوبٍ بلا تيجان. حملا معهما حفنة من الرسائل—شهادات ملكية ترفرف كطيور مجروحة—وحكايات عن مملكة قامت وسقطت في نفس النفس. استمع ضباط أوتاوا بجبين مرفوع بينما روى أونسلو مؤامرات القصور ومعارك السهول، وقدّم بريستون خناجر مصنوعة من فولاذ محلي، محفورة عليها صور الرمان وشعارات إنجليزية. غادرتهما شادابشهر أرضًا أعادها أهلها الأصليون، فمحوا الأعلام الأجنبية وأعادوا تسمية الحصن «خانة-خير»، أو «بيت الدَّين»، دلالة على ثمن الطموح المتهور. ورغم جردهما من التاج والذهب، جمع الرجلان ذكرياتهما كتواريخ، رتباهن في مجلدات قُدِّرت لصالونات على ضفاف التايمز، لتتحوّل إلى أساطير عن الغرور والشجاعة وحلمٍ عابر لمملكة نقشّت من هواء الجبال الرقيق.

الخاتمة

في النهاية، وميض حلم شادابشهر كان كشمعة وحيدة تحارب ريح الصحراء — ساطعة لحظة ثم خمدها قهر التاريخ وهشاشة البشر. عاد الكابتن أونسلو ودانييل بريستون إلى إنجلترا ليس كملوك متوشحين بالحرير، بل كرجلين يحملان عارًا وكنزًا من الحكايات المنقوشة في ذاكرة الجبال. حملا معهما شذرات من ألحان بدوية تعلموها حول النار، ومذكرات مهترئة مملوءة برسومات القنوات والأسوار، وصدى صلوات البشتو الذي ظلّ يرن في عروقهما. على موائد نوادي لندن، سردا حماقتهما وانتصاراتهما وهما يحتسيان البراندي فوق خرائط شاقّة بالكثير من الشك، خرائط قلّ من صدّق أنها قد تقود إلى واقع. كانت مملكتهما قصيرة، شهادة تخطف الأنفاس على قوة الجرأة، عُلّمت بتحالفات هشة، وانتهت بالطموح ذاته الذي أوقد قيامها. ومع ذلك، في أرشيفات أفغانية مغطّاة بالغبار وفي الهواء الليلي فوق صخور الهندوكش، لا تزال همسات حكمهما باقية. أعيد استخدام حجارة الحصن القديم واستُبدلت الأعلام، لكن كل مسافر يتوقّف عند الممر الجبلي يسمع حكاية مغامرين بريطانيين_claimًا تاجًا على حافة العالم. تقف القصة تحذيرًا وإلهامًا معًا: أن الخط الفاصل بين الغزو والانهيار هشّ جداً، وأن كل حلم مهما بدا مستحيلاً، قادر على أن يترك أثر مملكة في رمال الزمن.